أعلام النهضة السكندريين منذ عهد محمد على
محمد على باشا
(1768-1848)
ولد
عام 1768 بمدينة قولة، وهو من أصل ألبانى، كفله عمه طوسون فى حداثة سنه بعد وفاة
أبيه رئيس الحرس، ثم كفله الشوربجى صديق والده وحاكم قولة. التحق بالجيش ورقى إلى
رتبة قومندان فرقة، ثم اشتغل بالتجارة إلى سنة 1801، وقد قرر الباب العالى إرسال
حملة تركية لطرد الفرنسيين من مصر بمساعدة إنجلترا، وكان محمد على أحد أفراد القوة
البحرية التى اشتركت فى واقعة أبى قير.
ولما خرج الفرنسيون من مصر رقى إلى رتبة لواء، وعين قائداً لأربعة آلاف جندى
ألبانى. ثم أرسله خسرو باشا إلى الصعيد لمحاربة المماليك غدراً به، إلا أن محمد
على بذكائه استطاع عزل خسرو سنة 1803. وبحكمته وحسن سياسته تحبب إلى الشعب. وقد
عينه السلطان العثمانى والياً على مصر عام 1805 فبدأ عملية تحديث وتطوير مصر، حيث
يمكن تقسيم حكمه إلى فترتين: ففى الفترة الأولى اهتم بترسيخ حكمه والقضاء على
المماليك، والثانية تركزت على البناء
والتوسع الاقتصادى والعسكرى، وعمل على إقامة سلطة مركزية وضعت القوانين فنشطت
التجارة فى عهده وكل ما تحقق فى عهد محمد على يدل على أنه كان صاحب عقلية سبقت
زمانها، وأصبحت مصر فى عهده قوة اقتصادية وعسكرية هامة فى المنطقة، كما اهتم
بالزراعة ليس للاكتفاء الذاتى فحسب بل وللتصدير، وبدأ فى إدخال الصناعة الحديثة
إلى مصر. كما بدء فى بناء الجيش وتقويته وتسليحه تسليحاً حديثاً وبنى القوة
البحرية كما أقام صناعات النسيج باستعمال القطن المصرى المحلى، ووضع برنامجاً
للتوسع العسكرى على طرق التجارة التقليدية حتى وصل إلى الحجاز، وقضى على ثورة
الوهابيين ضد السلطة العثمانية عام 1818 واحتل السودان لتأمين وضع مصر، حتى أصبح
قوة يخشاها السلطان العثمانى. وتركز سعى محمد على على الاستقلال عن الدولة
العثمانية مع الإبقاء على الاتصال الثقافى معها. وقد بعث محمد على فى مدة الـ 45
سنة التى حكمها روحاً جديدة فى مصر، ونهض بها فى شتى نواحيها ومرافقها، فعنى بالرى
والتعليم والجيش والمالية والتجارة والصناعة والهندسة والموسيقى والطب. وأنشأ لها
المدارس والمصانع وأوفد البعثات إلى أوروبا. كما استقدم إليها خيرة العلماء
والفنيين. وانتشرت فى البلاد آثاره الخالدة، وخير الأدلة الآثار الإسلامية التى
تزدان بجملة منشئات معمارية تحمل اسمه فى شتى نواحى مصر، من مساجد وأسبلة ومصانع
وحصون، وقصور وقناطر ودار للمحفوظات ودار
لسك النقود، ودرة الآثار جميعاً مسجده الذى يشرف على القاهرة من علياء والذى دفن
به عام 1848 بالإضافة إلى قناطره الخيرية بالقاهرة.
أحمد زكى باشا
( 1867 – 1934 م )
" شيخ العروبة "
ولد
بالإسكندرية وتخرج بمدرسة الحقوق بالقاهرة عام 1887 وأتقن الفرنسية وكان يجيد
الإنجليزية والإيطالية واللاتينية، والرائد المصرى الأول لإحياء الآداب العربية
والبحث عن ذخائر المخطوطات وتحقيقها، وهو العالمة الذى حقق عشرات القضايا والمواقف
والأعلام ، وهو أول مصرى عربى فى العصر الحديث زار "الأندلس" وأطلق
عليها ( الفردوس الإسلامى المفقود ) وصاحب المكتبة الذكية التى تضم 18 ألف مجلد ،
نقلت بعد وفاته إلى دار الكتب المصرية، وأول من أدخل "الترقيم" فى
كتاباتنا العربية الحديثة، والطواف الرحالة من الأستانة إلى برلين إلى باريس ألى
لندن من أجل التراث، وصاحب النسخة الأولى أو الثانية على الأقل من عشرات الكتب
العربية المفقودة، الرجل الذى صعد إلى القلاع، وزار المساجد والكنائس والمقابر
محققاً، للمواقع والآثار، والذى فتح له قصر "طوباقوبو بتركيا" بعد أربعة
قرون لنقل المخطوطات العربية، وصديق المستشرقين فى أنحاء العالم المعمورة، وهو
المترجم من الفرنسية، وقد سار شوطاً فى مجال الترجمة. وكان هذا هو عمله فيما بعد،
وهو الكاتب الذى آثر الصحافة اليومية على المجلات، والتأليف، وصاحب الأسلوب الجامع
بين العلم والطرافة والفكاهة والسخرية، والذى فاجأ القراء فى خلال أربعين سنة
بعشرات من الآراء المثيرة التى حققها ، والذى ترك أكثر من ألف مقالة مبعثرة فى
بطون الصحف والمجلات ، وقد تبين أن لدى الأهرام فهرساً كاملاً بها فى المؤيد
والمقطم والبلاغ والهلال والمقتطف والمشرق والمقتبس ومخطوطات الخزانة الذكية
وأضابيرها.
المرحلة الأخيرة من حياته ( 1921 – 1934 ) هى
أخصب الفترات، حيث نشر عشرات المقالات والأبحاث، وتوسع فى صلاته بزعماء العالم
العربى، وتوسط فى الخلاف بين اليمن والسعودية وانتدب لتحقيق الخلاف بين العرب واليهود،
فى شأن حائط المبكى وقضية البراق، وتوفى بالقاهرة عام 1934، ودفن فى قبر أعده
لنفسه فى مسجده بالجيزة ومن كتبه ، السفر إلى المؤتمر – وموسوعات العلوم العربية –
وأسرار الترجمة – وقاموس الأعلام القديمة، والدنيا فى باريس – وذيل الأغانى – ومصر
والجغرافيا – والتعليم فى مصر – وأربعة عشر يوماً سعداء فى خلافة الأمير عبد
الرحمن الناصر – ونتائج الأفهام فى تقويم العرب قبل الإسلام - والرق فى الإسلام –
وتاريخ الشرق – وقبيل الإعدام – وعجائب الأسفار فى أعماق البحار.
الشيخ عبد العزيز جاويش
[1876-1929]
من رواد التربية والصحافة والاجتماع
خرج من أحشاء الشعب،
ودفعه ذكاؤه وإيمانه بشخصيته أن يهجر التجارة ويكمل تعليمه بالأزهر ويتركه إلى دار
العلوم، فيبرز فيها شاعراً وخطيباً. فإذا تخرج كان من المبعوثين إلى أوروبا، وبعد
عودته يعين بالتفتيش بوزارة المعارف ثم يعود مرة أخرى مدرسا للأدب العربى بجامعة
كمبردج عام 1906 وتزوج عام 1907 وصفه الذين عرفوه بأنه جمع صفات السماحة والصراحة
والحياد والعنف، لكل موقفه ولكل موضعه، ويقول عنه تلميذه طه حسين : أنه كان عذب
الروح حلو الحديث فى صدق واحتشام شديد الحياء وحاد المزاج يثور لأقل ما يتوهم فيه
الغض من كرامته، على أنه كان من صفاء النفس وطيبة القلب وخلوص النية بالمكان
الأرفع، سمحا كريما يجود بقوته، وأكبر مظاهره شدة العاطفة الدينية والوطنية التى
تكاد تلتهب لو مست بأذى، رحل جاويش إلى ألمانيا واضطر أن يحتطب فى الغابات ليكسب
رزقه، وفر من تركيا معدما لا يملك قوت يومه وعاد إليها فى عهد جديد فرفع مكاناً
عالياً، وفى مصر لا يفتأ أن ينتقل بين السجن والبيت فهذا وذاك له منزل، وهو عضو فى
كل الجمعيات الخيرية والنقابات. والإحسان فيه داء لا يهدأ فهو ينفق كل موارده فى
إغاثة المنكوبين، شفوق على الضعفاء، يفيض الدمع من عينيه عند سماعه شكاية
البائسين. هاجم الاتجار بالأوسمة والألقاب وبلغ من تمسكه بملبسه وزيه أن أقام فى
اكسفورد سبع سنوات يلبس العمامة والجبة ز يلقى الملوك بالرفعة والعزة ويلقى
الفقراء والضعاف بالتواضع ويسعى معهم إلى أمورهم. وصفه رشيد رضا رغم الصراع العنيف
بينهما بأنه من أركان حزب الإصلاح المعتدل، وقالت صحف الغرب: أنه رجل اقتبس مبادئ
التجديد من الغرب أكثر من أى إنسان حتى أصبح بين قومه فيلسوفا، واعترف له أعلام
الفكر فى إنجلترا بالنبوغ وأنه عالج وظيفته كمراقب للتعليم الأولي فى مصر عام 1926
بقدرة وهمة، وقام بواجبه بجد وأمانة، وكانت فى أعماقه صورة جمال الدين الأفغانى
حية نابضة كأنما كان يخطو وراءه خطوات، وقد أتيح له أن يلقى مثل ما لقى من المشاق
واستطاع أن يجمع أيضا أسلوب محمد عبده فى التربية وبناء النفوس، وقد دعا فى
المؤتمر الوطنى الذى انعقد فى يناير 1910 إلى ضرورة إنشاء مدارس البساتين (رياض
الأطفال) وقال أن هذه المدارس هى التى تبنى التعليم فى مصر، وقد وجه جاويش جهده
منذ اليوم الأول لعمله فى جريدة اللواء إلى بث فكرة التربية كأساس للتعليم ولرفع
مستوى الحياة الثقافية.
عبد الله النديم
[1845-1896]
خطيب الثورة العرابية
ولد بالإسكندرية عام
1845 لأب عمل نجاراً وخبازاً، أرسله والده لمسجد الشيخ إبراهيم لحفظ القرآن ودراسة
العلوم الدينية، إلا أنه أظهر ميلا لدراسة الأدب وتذوقه، فتردد على مجالس الأدباء وكتب ونظم الشعر والزجل،
ساعده عل هذا ذكاء فطرى وحافظة قوية ، ولم تكن مهنته الأدب تدر الرزق. فعمل
تلغرافيا بالقاهرة، مما أتاح له الالتقاء بسامى البارودى ومحمود الساعاتى وعبد
الله باشا فكرى والشيخ أحمد وهبى. فى سنة 1879 أحس الحنين إلى الإسكندرية وهى ليست
أقل نشاطا من القاهرة، فيها جمعيات خيرية وطنية أهمها مصر الفتاة وهى جمعية تهدف
إلى الإصلاح تعمل فى سرية وبها صحف عربية مثل الأهرام، وجريدة مصر التى أنشأها
أديب إسحاق ويحررها سليم نقاش ، وكان جمال الأفغانى وتلميذه محمد عبده ينشرون
مقالاتهم فى جريدة مصر وأيضا عبد النديم، وكانت الأفكار كلها متجهة فى هذا العصر
إلى أن السر فى تأخر مصر والمصريين إنما هو الجهل والخرافات المنتشرة، ولهذا كانت
الدعوة التى تردد على الألسن هى العمل على نشر التعليم. وفى عام 1879 أنشأ النديم
الجمعية الخيرية الإسلامية وغرضها تربية الناشئة وبث روح المعرفة فيهم، وأنشأت
الجمعية مدرسة بالثغر لتعليم الأيتام والفقراء بالمجان وعين النديم مديرا لها
ورتبت لها وزارة المعارف إعانة سنوية بعد زيارة الخديوى توفيق للمدرسة. واتجه
النديم إلى الفن تأليفا وترجمة وتمثيلا فألف روايتين هما الوطن وطالع التوفيق
والعرب. واشترك فى تمثيلهما مع تلاميذه على مسرح زيزينيا فى وجود الخديوى. غير أن
الأيام لم تصف للنديم فقام خلاف بينه وبين رجال الجمعية وانفصل عنها، وأنشأ جريدة
التنكيت والتبكيت فى يونيه 1881 وهى أسبوعية أدبية هزلية هجومها تنكيت، ومدحها
تبكيت، وقامت الثورة العرابية فوجدت صدى قويا عند النديم ـ فرحل إلى القاهرة واتصل
بعرابى وأصدر جريدة الطائف وأصبح خطيب الثورة المفوّه ولسانها الناطق . ووقعت
الحرب بين الإنجليز والمصريين، وتقهقر عرابى إلى كفر الدوار فالتل الكبير ولحقه
النديم، إلا أن الثورة العرابية أخفقت وقبض على زعمائها وفر النديم لتسع سنوات
ينتقل من بلدة ومن دار إلى دار دائم التنكر وألف فى هذه الفترة كتابه الممتع
"كان ويكون" وهى قصته فى الوفاء وصدق العزيمة. وفى عام 1891 قبض عليه
أثر وشاية وحقق معه قاسم أمين بصفته رئيس النيابة آنذاك وأحسن معاملته وأصدر توفيق
أمرا بنفيه، ولما توفى وولى العرش عباس حلمى عفا عن النديم وسمح له بالعودة،
والتقى بمصطفى كامل، وأنشأ صحفية الأستاذ عام 1892 لمؤازرة توفيق إلا أن الإنجليز
أبعدوه إلى يافا ومنا إلى الأستانة بتركيا فألتقى بأستاذه القديم جمال الدين
الأفغانى الذى تعلق وارتبط به، وأدركه مرض السل واشتد به ولى نداء ربه فى أكتوبر
1896 ودفن بالأستانة.
الشيخ سلامة حجازى
(1852-1917)
مؤسس النهضة الغنائية المسرحية
ولد سلامة التين
بالإسكندرية، نشأ يتيماً بعد وفاة والده بثلاث سنوات، فى مجتمع تسوده الفضائل
وتوجهه الروحانيات وتحوطه تلاوة القرآن والصلوات، ألحق بالمدرسة الرمزية لتعلم
القراءة والكتابة وحفظ القرآن، واشتغل صبياً لحلاق الحى المعلم فراج، وكانت حلقات
الذكر هى التى بعثت فى سلامة أول أثر فنى اتجه به نحو الموسيقى والغناء سر موهبته،
وكانت لآلة السلامية موضع خاص فى قلب الطفل وهى قصبة مجوفة من الغاب مفتوحة
الطرفين بها ستة ثقوب شائعة الاستعمال فى الموالد والأذكار، كما تأثر وتعلق بصوت
الناى العاطفى الرقيق وبنغماته الشجية، فاندفع إلى تعلمه حتى أجاده، واحتضنه كامل
الحريرى شيخ المنشدين بعد أن لاحظ حلاوة صوت هذا الصبى واستعان به لتأدية الآهات،
وشاءت عناية الله أن يهتم بدراسة الموسيقى، ولم يتشبت بالإنشاد خلال فترة المراهقة
اللهم حفظ الأذكار وتأديتها على الناى والسلامية، وعندما بلغ السادسة عشرة تشعبت حياته
الفنية لثلاث شعب، تلاوة القرآن وأداء الآذان وإنشاد القصائد والمدائح النبوية،
وقد تنبه الناس إلى رقة صوته وحلاوة أدائه.
فأسند إليه افتتاح
حلقات الذكر بتلاوة القرآن وتهافتوا عليه ليقرأ لهم فى منازلهم بأجور مجزية، أتاحت
له تحمل مسئولية الإنفاق على أسرته، وتزوج سلامة من فتاة أحلامه عائشة وكان فى
الثانية والعشرين من عمره ورزق بمولوده الأول محمد، وعلت مكانته وارتدى القبة
والقفطان ولقب بالشيخ وجمع بين الدين والفن، وأصبح موضع تقدير وإجلال من الجماهير،
ودفعته رغبة ملحة للغناء فوق التخت تصاحبه الآلات، ولاقى النجاح وغمرت شهرته
الأوساط... إلى أن كان حريق الإسكندرية عام 1882 فهاجر إلى رشيد وتقلب الدهر عليه
حيث توفى ولده محمد ولحقت به الأم عائشة، فعاد إلى الإسكندرية، وصعد نجمه وعمت
شهرته وتوثقت صلته بأعلام الفن والغناء عبد الحامولى ومحمد عثمان وإبراهيم القبانى
وداوود حسنى ومحمد السبع وغيرهم وسجل الشيخ بصوته الكثير من الأدوار الخالدة على
اسطوانات أوديون وانضم الشيخ سلامة إلى فرقة قرداحى المسرحية عام 1885، وانتقل
بالأغنية والقصيدة من جو التخت إلى المسرح الفسيح، واشترك فى مسرحية "مى
وهوراس" التى استمر تمثيلها فى الأوبرا ثلاثين ليلة متتالية، كان الإقبال
عليها مطرداً، وأخرج المسرحيات الغنائية فى روايات هارون الرشيد –
عائدة – الظلم – ليلى وغيرها. وانفصل الشيخ عن فرقة القرداحى
وكون فرقة أدارها بنفسه فى عام 1891 ثم انضم لفرقة إسكندر فرح حتى عام 1905.
سيد درويش
(1892-1923)
رائد الموسيقى
العربية
ولد سيد درويش فى الإسكندرية بحى كوم الدكة
سنة 1892، وكان لنشأته الشعبية أثر كبير فى انتمائه. بدأ بحفظ القرآن الكريم منذ
طفولته بالمعهد الدينى بالإسكندرية، ولم يستكمل دراسته بسبب وفاة والده، وبدأ يرتل
القرآن الكريم بصوته المعبر السليم فى بعض البيوت نظير أجر، لجأ إلى الغناء فى
"القهوة" وهى النادى الذى يجمع المواطنين لشرب المشروبات والترفيه
بالاستماع إلى الجوقة التى تغنى بعض الألحان الجماعية. أو الاستماع إلى فرقة
غنائية تتكون من أحد المغنين بمصاحبة عدد من العازفين، ولقد اشتغل مع أحد
المقاولين كعامل مناول للطوب ومواد البناء، ومن هذه التجربة اكتسب روح التعاون
والمحبة من أجل لقمة العيش، وغنى معهم ألحان البنائين التى اكتشفها فى حياته
العملية مع أهل الحى، حياة السقايين والنجارين والشيالين والصنايعية، إن أهم ما
يميز ألحان هؤلاء الحرفيين هو عنصر الإيقاع الموسيقى النابع من لهجة كلامهم العادى
والذى كساه الموسيقار سيد درويش بالنغم، وأبدع أغانيه هى التى لحنها من صميم حياة
الحرفيين.
خرج سيد درويش إلى الحياة فتفتحت مداركه على
أنواع من الموسيقى تختلف عن تلك التى تغذت روحه من ينابيعها فى بيئته بكوم الدكة.
أنشأ الشيخ سلامة حجازى فرقته التمثيلية الغنائية الخاصة سنة 1905 وقدم سيد درويش
لأول مرة للجمهور سنة 1916 حيث قال الشيخ سلامة حجازى للجمهور احفظوا اسم هذا
الشاب، واذكروا أنى فخور به معتز به.
قبل أن يلحن للمسرح الغنائى تأثر بتراث
الموشحات العربية الموروثة، وقد تعرف عليه من أوساط المشايخ والموسيقيين المحترفين
فى العالم الطرب والتلحين، فأبدع سيد درويش أحد عشر موشحاً تعتبر من التراث الهام
وأبدع عشرة أدوار غنائية مع العناية بالتعبير الموسيقى لمعانى الكلمات مع بساطة
ووضوح الأداء الذى يخدم التعبير لكى يستعرض بها مهاراته فى الأداء، ومن هذه
الأدوار "ضيعت حياتى" "أنا عشقت" "أنا هويت
وانتهيت" كما أبدع سيد درويش العديد من الأغانى الخفيفة "الطقاطيق"
التى استوحاها من التراث، واتجه إلى التلحين للمسرح الغنائى حيث وجد الآفاق
لازدهار موهبته فى التصوير الموسيقى لأبعاد الشخصيات المسرحية، لذا يعتبر
الموسيقار الأول الذى طور الأسس الفنية المتكاملة لهذه الأشكال الغنائية المسرحية.
كما يعتبر رائد التجديد فى المسرح الغنائى
ولقد بلغ ذروة نضجه فى التلحين مسرحية "شهر زاد" ومسرحية
"البروكة" كما تأثر تأثراً عميقاً بالأحداث السياسية والاجتماعية التى
عاشها فى عصره، فعبر عن انتفاضة الشعب المصرى بكل فئاته فى ثورة سنة 1919 دعماً
للزعيم المصرى سعد زغلول للتخلص من
الاحتلال البريطانى
وتحقيق الاستقلال. كما انعكست فى ألحانه التغيرات الاجتماعية التى نادت بتحرير
المرأة المصرية ودعوتها إلى المشاركة فى بناء المجتمع.
وقد أدرك
أن ثقافته الموسيقية المصرية جزء من الثقافة الموسيقية العربية فعمق دراسته لها
أثناء رحلاته إلى البلاد العربية عام 1923.
على باشا إبراهيم
(1880-1947)
رائد النهضة الطبية الحديثة
أصل أبويه من فوه.
ولد بالإسكندرية عام 1880، وحصل منها على الابتدائية عام 1892 وتخرج من مدرسة الطب
عام 1901 وقت أن كان نفوذ الطب الأجنبى طاغياً، أجرى أكثر من 35000 جراحة. وحظى
بثلاثة عشر وساماً من دول أجنبية، ونال
دون تقدم للامتحان أرقى ثلاث مؤهلات طبية فخرية. ابتدأ حياته من طبيب أوبئة إلى مدير مستشفى إقليمى إلى رئيس للبعثة الطبية المصرية فى حرب
البلقان. إلى مساعد جراح بمستشفى القصر العينى، إلى أستاذ للجراحة فيه ومديراً له،
إلى عميد لكلية الطب، إلى صديق شخصى لأكابر الجراحين فى العالم، إلى وزير للصحة
إلى مدير للجامعة، خدمته النهضة المصرية عام 1919 فى جهودها لتقويض النفوذ الأجنبى وإقامة دعائم للنفوذ
الوطنى.
وقد عمل الدكتور على باشا إبراهيم على نشر
الثقافة الطبية بعدة رسائل، فاجتمع هو وزملاء له سنة 1917 وقرروا إصدار مجلة طبية
عرفت باسم المجلة الطبية المصرية - وهو
صاحب الامتياز للمجلة، واقترح بعد ذلك تكوين الجمعية الطبية المصرية فتكونت عام 1920. وأختير رئيساً له. ولم تقتصر جهوده
على الناحية الطبية بل اتجه فى خدمة المجتمع، فقد جمع أهل المهن الطبية وحثهم على الانضمام إلى ثورة 1919
وخاضوا غمارها مع بقية طوائف الشعب. وجند الأطباء لجمع التبرعات. وكان من أثر ذلك
تشييد مصنع القرض للطرابيش ومصنع القرش لغزل
الصوف. وهما يومئذ مشروعان اقتصاديان لهما شأن عظيم.
وفى
الوقت الذى بلغ فيه التفاخر بالأنساب والأحساب أشده كان الدكتور على
إبراهيم يفخر بأصله المتواضع، بأبيه الفلاح وأمه الإسكندرانية وبأخواته وإخوته.
وكانت صورة أمه تعلو مكتبه لآخر أيام حياته، وكان الدكتور على باشا إبراهيم شغوفاً
بالأدب والشعر والفنون الجميلة كالتصوير والنحت والموسيقى والغناء. ومشجعاً على
حضور الندوات والمناظرات الأدبية والفنية ومعتقداً أنها الوسيلة الأولى لارتقاء
الجوانب الوجدانية والنفسية عند الإنسان، كما كان ينصح مرضاه بضرورة مزاولة
الإحساس والسماع
الموسيقى والغناء لأهميتهما فى رفع معنويات
المرضى. لاسيما من أجريت لهم جراحات فهى تساهم فى تخفيف الآلام.
ولم يكد على إبراهيم
يتولى عمادة الطب عام 1929 حتى راح يجاهد ويجامل ويحرك الأمور بلطف حتى أتيح له
الحصول على الاعتمادات اللازمة لبناء مستشفى المنيل الجامعى. وكان كلما فرغ من
بناء بدأ فى آخر مستخدماً كل السبل والطرق المؤدية إلى تنفيذ طموحاته. وكان يضع
السلطة أمام الأمر الواقع حيث كان بذكائه ودبلوماسيته يقضى حاجة كل وزير فى
المستشفى والكلية بأسرع من البرق وما اكثر طلبات الوزراء والأعيان والأشراف فى هذه
النواحى. وسهلاً عليه أن يحقق لهم أغراضهم ولكن بعد أن يكون قد نال من أى منهم
للكلية وللمستشفى أية ميزة أو من الضرورة بمكان الحصول على أى اعتماد يكون من شأنه
القدرة على مزيد من البناء، ولذلك فإنه استطاع أن ينتشل الطب المصرى من الذل
والهوان من أيدى الأجانب الغرباء والذين كانوا يمثلون الغلبة والنفوذ، وانتقل الطب
إلى أيدى المصريين منذ هذه الفترة وأخذ الدم المصرى يملأ شرايين كلية الطب على
أيدى على إبراهيم صاحب الأنامل العبقرية التى عملت بمهارة وحذق الفنان فى الجراحة،
ولاشك أن التقدم العلمى اليوم للأطباء المصريين فى دول أوروبا وأمريكا مرجعه بعد
النظر الذى كان يميز شخصية على إبراهيم زعيم النهضة الطبية فى مصر والعالم العربى
والأفريقى. وصاحب السجل الحافل بمئات من صفحات
المجد والفخار.
السيد/ محمد كريم
بطل المقاومة الشعبية
وقف هذا المجاهد
الوطنى فى وجه الحملة الفرنسية الاستعمارية التى قادها نابليون بونابرت عام 1798مفوضاً من حكومة بلاده لاحتلال البلاد
المصرية، وتزعم السيد/ محمد كريم حركة المقاموة الشعبية منذ وطأت اقدام الغزاة أرض
بلاده وبذل حياته فداء لوطنه وكان من الشهداء الخالدين.
وولد السيد/ محمد
كريم بحى الأنفوشى بالإسكندرية قبل منتصف القرن الثامن عشر الميلادى وعين حاكماً
للإسكندرية ومديراً لجماركها.
وفى يوم 19 مايو 1798
أقلع أسطول فرنسى كبير مكون من 26 سفينة من ميناء طولون وبلغ الإنجليز هذا النبأ
وتوجسوا من هذه الحملة خيفة وعهدوا إلى نيلسون باقتفاء أثرها وتدميرها، فقصد إلى
مالطة وعلم هناك أن مركب نابليون غادرتها نحو الشرق منذ خمسة أيام فرجح أنها تقصد
الإقليم المصرى واتجه إلى الإسكندرية وبلغها يوم 28 يونيو 1798 فلم يعثر هناك
للفرنسيين على أثر.
وقد وصل الأسطول الفرنسى غرب الإسكندرية عند
العجمى فى أول يوليو 1798 وبادر بإنزال قواته ليلاً غ البر ثم سير قسماً من جيشه
إلى الإسكندرية وصد نابليون على الربوة المقام عليها عمود السوارى وكان ممثلى ***
الإسكندرية وشاهد الأهلين محتشدين بأعلى الأسوار فأصدر أوامره بالهجوم العام.
وظل محمد كريم يقود المعركة ثم اعتصم بقلعة
قايتباى ومعه فريق من المقاتلين حتى فرغت ذخيرته فكف عن القتال ولم يكن بد من
التسليم ودخل نابليون المدينة وأعلن بها الأمان.
وفى 6 سبتمبر 1798 تم تنفيذ عقوبة الإعدام بأن
أصدر نابليون بونابرت هذا الأمر ونفذ فى السيد محمد كريم بميدان الرميلة بالقاهرة.
وهكذا انتهت حياة هذا الشهيد الشجاع.
حسن الإسكندرانى "أمير البحر"
ولد زكريا حسن الاسكندرانى بالإسكندرية عام
1790م ثم أرسل فى فجر شبابه عام 1818 فى بعثة بحرية إلى ثغر طولون بفرنسا حيث كان
يتخرج ضباط البحرية الفرنسية. وفى كلية طولون البحرية درسوا فن البحر والرياضيات
وتدربوا فى دار الصناعة "الترسانة" وفى السفينة المدرسية خارج الميناء.
وبعد البعثة أسندت غليه إحدى المراكب الصغيرة التى كانت تسمى بالأباريق.. فاستطاع
أن يأسر بها سفينتين يونانيتين ويعود بهما إلى الإسكندرية ومنحته الدولة داراً بحى
"أبو وردة".
وفى 20 أكتوبر 1827 حدثت موقعة نفارين البحرية
المعروفة وكان حسن الإسكندرانى قائداً للسفينة الحربية المصرية (إحسانية) إحدى سفن الأسطول المصرى
الذى يقوده محرم بك وعدد قطعه 31 سفينة وفى الموقعة التى دبرها الإنجليز لتحطيم
الأسطول المصرى وما كان معه من السفن التركية كى لا تنافسهم تلك القوة الناشئة فى
سيادة البحر. وأشرك الإنجليز معهم فى تلك الموقعة الأسطولين الفرنسى والروسى بحجة
حماية استقلال اليونان.
وبدأ التحدى.. فرست السفن الإنجليزية
والفرنسية على مقربة من السفن المصرية والتركية فى صفوف وكانت المراكب المصرية
راسية فى الوسط والأسطول العثمانى إلى يمينها ويسارها على شكل هلال كبير، فكان
المصريون بهذا الوضع مقيدين يعوزهم المكان الفسيح اللازم لتحركاتهم وأكثر
استهدافاً لمدافع العدو.
وأطلقت السفينة الفرنسية "سيرين"
أول قذيفة على "إحسانية" المقيدة فى مكانها وردت إحسانية على
هذه الضربة بمثلها
واستمرت بقيادة حسن الإسكندرانى تطلق مدافعها إلى النهاية وتحطمت فى هذه المعركة
24 سفينة ولكن لمن تستسلم للعدو سفينة واحدة ولم تؤسر سفينة واحدة ولا جندى مصرى
واحد فى هذه الواقعة التاريخية التى شبت غدراً ولم تشرف المعتدى.
وفى يونيو 1837 عين
حسن الإسكندرانى وزيراً للبحرية، وفى نوفمبر 1838 كان الأسطول المصرى بفضله فى
مقدمة أساطيل العالم بعد أسطول إنجلترا وفرنسا.
والواقع أن تحصين
الإسكندرية وشواطئها وضواحيها ومنها بوقير يرجع الفضل فيه كله تقريباً إلى يقظة
حسن الإسكندرانى المستمرة ثم إلى مساعديه، ويوجد بحديقة الخالدين الآن تمثالاً
تخليداً لذكره.
قاسم أمين
(1836م-1908م)
كان المصلح الاجتماعى قاسم أمين والمقرون اسمه بحرية تحرير
المرأة – سكندرى المولد والنشأة. وقد وضع عن سيرته
وجهوده عدد من الكتب وكتب عنه الكثير من المقالات والدراسات وخلدت أعماله وكتاباته
ذكره.
ولد قاسم أمين
بالإسكندرية فى أول ديسمبر عام 1863 وسافر إلى فرنسا لدراسة القانون فيما بين عامى
1882-1885 وهناك لمس الحريات التى سادت المجتمع الفرنسى سواء فى مشاركة المرأة
الرجل فى كثير من العمال أم فى الصحافة
والنشر أم فى الحياة السياسية.
وفى عام 1894م نشر
بالفرنسية بعنوان "المصريون" وأخذ ينشر فى جريدة المؤيد –
فيما بين 1895-1897 مقالات بتوقيع "السائح" ثم نشر عام 1899 كتابه
(تحرير المرأة) ونشر عام 1906 كتاباً بعنوان (كلمات قاسم أمين) وأسهم فى مشروع
إنشاء الجامعة المصرية القديمة. وتوفى فى 23/4/1958م.
أما دعوته إلى تحرير
المرأة – فقد أثمرت بعده أحسن الثمار وتشارك المرأة العربية اليوم أخاها
الرجل مختلف أعبائه فى جميع الميادين.
( ناقص جزء في الباب الخامس من ص
141،142،143،144
الشيخ عبد العزيز جاويش ص 147 تم تغييره
ناقص ص 157 حتى 163 ( سليم تقلا وبشارة تقلا 000
الأستاذ الدكتور محمد درى باشا
[1841-1900]
الطبيب الجراح
ولد
محمد درى بقرية محلة أبو على إحدى ضواحى المحلة الكبرى ، وتلقى التعليم الابتدائى
والثانوى ، ثم التحق بمدرسة المهندسخانة عندما كان ناظرها على باشا مبارك ، ولكن
هذا الشاب كان متعلقا بدراسة الطب ، فطلب من أستاذه معاونته على الالتحاق بالمدرسة
، واقتنع على مبارك وساعده فى الالتحاق بمدرسة الطب ، وفجأة ألغى الوالى سعيد باشا
مدرسة الطب وأمر بإلحاق طلابها بالجيش . ووجد محمد درى نفسه جنديا ، ولم ييأس ،
فاستمر فى دراسة الطب من الكتب التى استطاع الوصول إليها ، ثم عمل ممرضا ، وأعاد
سعيد باشا فتح المدرسة ، فعاد إليها محمد درى وأتم دراسته بنجاح باهر ، فعين معيدا
للجراحة بالمدرسة ، ثم سافر فى بعثة إلى فرنسا للتزود بأحدث ما وصل إليه الطب هناك
، وكان الطبيب محمد درى أصغر المبعوثين وأنبغهم وأكثرهم علما ، وبقى وحده فى باريس
سبع سنوات ، أتم دراسته على أشهر الجراحين ، حيث قام الوالى إسماعيل باشا بإرجاع
زملائه الآخرين وأبقاه وحده فى فرنسا وشمله برعايته بعد أن سمع من أساتذته بنبوغه
ومهارته ، ثم عاد إلى مصر ليشغل منصب كبير الجراحين فى مستشفى قصر العينى ،
والأستاذ الأول للجراحة بمدرسة الطب ، وانهالت عليه الرتب والألقاب ومنها الباشوية
، وذاعت شهرته وأصبح نجم الجراحة الأول . ولقد عرف عنه أنه يقتنى مكتبة علمية
نفيسة تضم أهم المراجع خاصة فى مجال التشريح ، وقرر الدكتور درى تدريس الطب باللغة
العربية وأن هذا لا يمنع إطلاقا من الرجوع إلى كتب الطب بأى لغة لمن يرغب فى رفع
مستواه العلمى ، وأنشأ الدكتور درى مطبعته الخاصة وسماها المطبعة الدرية لطباعة
الكتب الطبية . وجعل مقرها فى حارة
السقايين ، ومن أول الكتب التى ألفها وطبعها فى أربعة مجلدات كتاب بلوغ المرام فى
جراحة الأجسام ، ثم طبع كتابه الإسعافات الصحية فى الأمراض الوبائية ، كما طبع
الكثير من الكتب الطبية للأساتذة الذى يعملون معه فى القصر العينى ، ولم ينس فضل
أستاذه على باشا مبارك فأصدر عن تاريخ هذا الرجل كتابا طبعه أيضا فى مطبعته ، وكان
الكتاب الوحيد فى غير علوم الطب الذى طبع بمطبعته ، ولم يدخر جهدا أو مالاً فى
سبيل تحقيق أمل حياته فى ترجمة وطبع كل فروع المعرفة الطبية ، إلا أن الموت عاجله
عام 1900 ولم يتبقى من سيرته الذاتية وحياته العظيمة سوى لوحة تحمل اسمه فى أحد
شوارع حى العجوزة هو "شارع الدرى" رحمه الله .
الاسكندرية في العصر الإسلامي
من القرن السابع
الميلادي إلى القرن السادس عشر
يقول الأستاذ الدكتور
جمال الدين الشيال (11) تم لعمرو بن العاص فتح مصر يوم أن وقع الهدنة
بينه وبين "قيروس Cyrus" فى ديسمبر سنة 641 (المحرم 21هـ). ثم
دخل جيشه الإسكندرية بعد أحد عشر شهراً – وهى مدة الهدنة المتفق عليها –
وهذا هو الفتح الأول للإسكندرية. وقد تم صلحاً لا عنوة، غير أن الروم لم يلبثوا أن
استشعروا ضعف المدينة بعد عزل عمرو عن ولاية مصر وتولية عبد الله بن سعد، فعادوا
إليها فى أواخر سنة 645 (أوائل سنة 25 هـ).
ونُدب عمرو لقتالهم،
فهزمهم خارج المدينة، ثم تتبعهم إلى
أسوارها، ويقال أنه عندما رأى الأسوار تقوم سداً مانعاً بينه وبين المدينة ندم أن
لم يقدم على هدمها عند دخوله المدينة فى المرة الأولى، وحلف لئن أظفره الله
بالمدينة ليهدمن أسوارها، ثم هاجم هذه الأسوار بمجانيقه من ناحيتها الشرقية إلى أن
سلمت له، ومن هنا ترددت المقولة بأن عمراً هدم جميع أسوار الإسكندرية بعد دخوله
إليها، وهى فى الحقيقة مقولة ظالمة، والراجح أن بعض أجزاء السور من جهتيه الشرقية
والجنوبية قد هدمت أثناء الحصار والقتال بين العرب والروم إبان هذا الفتح الثانى
للمدينة.
غير أن هذه الأسوار
أعيد بناؤها فى العصر العربى، وليس من المعروف على وجه التحديد متى أعيد بناؤها،
وإن كانت بعض المراجع تشير إلى أنها بنيت ثانية فى عصر أحمد بن طولون (فى النصف
الثانى من القرن الثالث الهجرى).
ولم تكن الإسكندرية
وقت أن دخلها العرب فى ازدهارها القديم، بل لقد كانت عوادى الزمن قد أتت على بعض
معالمها، كما كانت الحوادث السياسية قد أتت على بعض آخر، فإن النزاع بين الرومان
والبطالمة، ثم النزاع بين الروم الوثنيين والمصريين المسيحيين، ثم النزاع بين
الروم الملكانيين واليعاقبة المصريين، كل هذا كان له أثره الواضح فى تخريب الكثير
من معالم المدينة الهامة التى كانت تميزها وتزينها فى العصر اليونانى،
فالمدينة وقت دخول
العرب كانت قد فقدت مكتبتها الكبرى ودار حكمتها، والقصور الملكية لم يكن لها
بهاؤها القديم وعظمتها السالفة، ومعبد السيرابيوم والقيصريون كانت قد نالت منهما
أيدى التخريب إبان النزاع الدامى بين المسيحية والوثنية، وإن كانت قد أقيمت على
أجزاء منهما كنيستان كبيرتان.
ومع هذا كله فقد بهرت
المدينة أعين العرب عند رؤيتها ورؤية مبانيها، فوصفوها وصف المعجب المشدوه،
وأشاروا أكثر ما أشاروا إلى معالمها البارزة ومبانيها المميزة: كالمنارة، وعمود
السوارى، وكنيسة القيصريون، ومسلات كليوباترا، وقصور المدينة، وحماماتها،
وصهاريجها، وشوارعها المكسوة بالمرمر والرخام وكثرة ما بها من عمد، وأخيراً
أسوارها وحصونها وأبراجها.
وقد انكمشت المدينة
فى أوائل العصر العربى عما كانت عليه فى العصور القديمة، فلما أعيد بناء السور
روعى أن يضم إليه المنطقة الآهلة بالسكان فقط، وهى التى تحتاج إلى الدفاع عنها،
وترك خارجه منطقتان كبيرتان فى شرقى المدينة وجنوبيها، أما المنطقة الشرقية فكانت
تقوم عليها مقابر اليونان والرومان، ولا حاجة لأن تضمها الأسوار إلى المدينة، وأما
المنطقة الجنوبية فكانت تضم بعض المزارع وبقية من أطلال معبد السيرابيوم وأطلال ما
كان يحيط به من مبان وبيوت يشرف عليها جميعاً عمود السوارى، ولم يكن هناك داع لصرف
الأموال الطائلة لتوسيع محيط السور عند إعادة بنائه ليضم كل هذه الأطلال.
وصف
الإسكندرية التى رآها العرب:
وقد وصف الدكتور سعد
زغلول عبد الحميد الإسكندرية عندما دخلها العرب
دخل
العرب المدينة التى لم يشهدوا لها مثيلاً من قبل قصورها الضخمة ومعابدها الفخمة
وشوارعها الواسعة ذات الأقواس (العقود) المرفوعة على العمد الجميلة، والمليئة
بالأعمدة الهائلة والتماثيل العجيبة، فكان لها وقع غريب فى نفوسهم آثار خصب خاليهم
فوصفوها وصفاً رائعاً.
والواضح من وصف الإسكندرية عند مؤرخ مصر اتبن
عبد الحكم أن المدينة كانت تتكون من 3 (ثلاثة) أحياء على كل حى منها سور، وخلف ذلك
سور على الثلاثة أحياء، هو سور المدينة، وأحياء المدينة الثلاثة عند دخول العرب،
هى حى المصريين الوطنى، وحى الروم، وحى اليهود. والمعروف أن العداء كان صريحاً بين
الطوائف الثلاث، وهذا ما يفسر كيف أنه كان لكل حى من الأحياء أسواره الخاصة داخل
نطاق أسوار المدينة وتحصيناتها.
وهناك وصف مدهش لصهاريج خزن المياه، إلى كانت
طبقات فوق بعض، وبها العدد العظيم من الحجرات والأعمدة، وهذا أصل الأسطورة التى
تقول أن الإسكندرية مبنية مدينة فوق مدينة، نظراً لاتساع هذه الصهاريج إلى درجة
جعلت الناس يقولون أنها شملت كل مساحة المدينة الكبيرة. ومازالت بعض هذه الصهاريج
موجودة حتى اليوم وهذه الصهاريج كانت تملأ من الترعة العذبة فى أوقات الفيضان.
وأما الأسواق المقنطرة فالمعروف أن كثيراً من شوارع الإسكندرية كان يكتنفها من
الجانبين سقائف (بوائك) مبنية على
عقود وأقواس تحملها
الأعمدة الجميلة، وخاصة فى الشارعين الرئيسيين: الطولى (الكانوبى: شارع فؤاد أو
الحرية حالياً)، والرأسى (السوما: شارع النبى دانيال حالياً). ولما كان الطريق
الأعظم هو موضع البيع والشراء فإنه كان بمثابة السوق المقنطرة. ولاشك فى أن هذا
الطريق التجارى المسقف هو الذى أوحى ببناء الأسواق المسقوفة فى المدن العربية
المعروفة (بالقيسارية)، (القيصرية) نسبة إلى قيصر. ونظن أن قيسارية الإسكندرية فى
العصر العربى الأول كانت فى هذا الطريق. ولا بأس من تحديدها بالقرب من سوق
العطارين الحالى الذى يحده الطريق الأعظم القديم (طريق الحرية اليوم).
وأشهر معالم الإسكندرية على الإطلاق هو المنار
أحد عجائب الدنيا السبع – وتتمثل بقايا قاعدته المربعة فى قلعة
قايتباى الحالية بحى الأنفوشى.
وهناك وصف جيد للمنار المؤرخ القديم المسعودى
0سنة 332هـ/943م) ينص على أنه يتكون من 3 (ثلاث) طبقات: السفلى مربعة الشكل، مبنية
بالحجارة، والوسطى مثمنة، مبنية بالآجر والحصى، ومحيطها أقل من محيط الطبقة
السفلى، والعليا مدورة الشكل، ومحيطها أقل من محيط الطبقة الثانية. هذا كما قدم
لنا المسعودى معلومات تاريخية هامة عن الزلازل التى ألمت بالإسكندرية وما ألحقته
بالمنار حتى أيامه مثل زلزال سنة 324هـ/935م الذى هدم 30 (ثلاثين) قدماً من أعلاه.
ويذكر الكتاب أنه كان فى قمة المنار مسجد
ينسبونه إلى النبى سليمان. وهذا المسجد كان موضع عناية حاكم مصر أحمد بن طولون سنة
262هـ/755م. وهذا المسجد كان يرابط فيه حراس البحر لمراقبة العدو البحرى. وكان
المنار مبجلاً من السكندريين الذين خصصوا له يوماً جعلوا عيده السنوى، وكان يوم
الخميس دائماً، هو خميس العهد، عيد الربيع عند المصريين الذى يعادل اثنين شم
النسيم، عيد الربيع الحالى. وكان الناس يصعدون فى يوم عيد المنار هذا إلى أعلى
المنار، يتأملون بنياته، ويطلون من أعلاه على البحر وعلى معالمه، ويصلى من يريد
التبرك بالصلاة فى مسجده، وذلك من الصباح إلى أن ينتصف النهار. ومنذ لك اليوم كان
يبدأ احتراس البحر.
ولقد كان للمنار آثاره على العمارة الإسلامية
فى المشرق، وفى بلاد المغرب العربى خاصة. هذا كما كان لمنار الإسكندرية تأثيره على
بناء أبراج الكنائس فى مصر والشام، وأنه ومن هذه الأبراج أوحى إلى العرب بناء مآذن
المساجد ابتداء من النصف الثانى للقرن الأول الهجرى على أيام والى مصر مسلمة بن
مخلد. وأقدم نماذج هذا النوع من المآذن التى تذكر بشكل منار الإسكندرية هى منارة
المسجد الجامع بالقيروان، وإن كانت المآذن التى تعتبر بحق نماذج حقيقية لمنار
الإسكندرية، هى منارة جامع أشبيليه بالأندلس التى حولت إلى برج للكتدرائية،
والمعروفة حالياً باسم الخيرالدا، ومنارة جامع الكتيبة بمدينة مراكش ثم منارة جامع
حسان بمدينة الرباط التى لم يتم بناء الأجزاء العليا منها. وفى ذلك يقول المؤرخ
عبد الواحد المراكشى إلى إن مئذنة جامع حسان التى بناها المنصور الموحدى فى أواخر
القرن الـ 6هـ/12م، إنما بنيت على هيئة منار الإسكندرية، كما أن مدينة الرباط
نفسها (عاصمة المغرب) بنيت على هيئة الإسكندرية من حيث اتساع الشوارع واستقامتها،
وعظمة مبانيها.
ويأتى بعد المنار
عامود السوارى الذى ينسبه الكتاب العرب إلى النبى سليمان. ويوصف بأنه أسطوانة
عظيمة لم يسمع بمثلها، غلظها 36 شبراً عالية شاهقا لا يدرك أعلاها قاذف بحجر، أما
عن رأس العامود (تاجه) فقالوا إنه محكم الصناعة، وأنه يدل على أن بناء كان عليه،
والعامود الذى أعطى اسمه لمقبرة الإسكندرية (العامود) يعتبر من أعاجيب العالم.
وعامود السوارى يقع إلى شمال قصر الإسكندرية
الأعظم، والمقصود به معبد السرابيوم الذى
يوصف بأنه لم يكن له فى معمور الأرض نظير. وكان موضعه فى نفس منطقة عامود السوارى
فى الحى الوطنى بإزاء الباب الجنوبى للإسكندرية، وهو باب الشجرة الذى يعرف حالياً
بباب سدرة. وكان القصر (المعبد) على ربوة عالية ( المعروفة بالطوبجية حالياً)
وطوله 500 ذراع وعرضه 250 ذراعاً، ولا يصف الكتاب العرب إلا بقاياه من السوارى
التى بلغت عدتها 100 (مائة) أسطوانة قائمة، غلظ كل واحدة منهالا عشرة أشبار. وهذه
السوارى الصغيرة (نسبياً) هى التى أعطت للأسطوانة الكبرى اسم عامود السوارى.
ولا يوجد حالياً فى الموضع عمد أو سوارى سوى
العامود الأكبر، والمعروف تاريخياً أن قراجاً والى صلاح الدين على الإسكندرية حمل
الأعمدة وألقى بها فى البحر ليمنع أثر الأمواج على الشاطئ (كما تفعل البلدية
حالياً عندما تضع مكعبات الخرسانة الكبيرة) أو ليعوق العدو البحرى من النزول إلى
البر.
أما الملعب الذى كان مبنياً بطريقة بديعة: يرى
الجالسون فيه بعضهم بعضاً، ويشاهدون كل ما يجرى فيه من مناقشات أو ألعاب (لا يخفى
على أحدهم من ذلك شيئاً). وهنا تقول الرواية أن عمرو بن العاص حضر قبل الفتح أحد
مهرجانات الإسكندرية الرياضية فى ذلك الملعب، وأن الكرة التى كان يلعب بها الفتيان
والفتيات وقعت فى جيبه فكانت نبوءة امتلاكه الإسكندرية. وتفخر الإسكندرية بذلك
الملعب البديع الذى تم الكشف عنه حديثاً تحت بعض أنقاض كوم الدكة، بجوار مركز
المطافئ حالياً.
كان من أهم معالم الإسكندرية وقتئذ كنيستان من
أعظم كنائس الروم، أولاهما هى كنيسة القديس مرقص (المرقصية) حيث كان جثمان الرسول
الذى نقل إلى البندقية فى القرن التاسع الميلادى. والأخرى هى كنيسة القيصريون اتى
كان لها مسلتان قديمتان فى فنائها، وهما اللتان نقلتا إلى نيويورك ولندن. وباسمهما يعرف حالياً
حى وشارع المسلة (المتاخمان جنوباً لمحطة الرمل).
وأغلب الظن أن مقبرة الإسكندر لم تكن بعيدة عن
حى القيصريون، والمسعودى فى كتابه مروج الذهب يذكر المقبرة ولكنه لا يحدد موضعها
بالدقة. ونظن أنه ينقل عن بعض القدامى عندما يقول: أن جثة الإسكندر وضعت فى تابوت
من المرمر (وجعل التابوت المرمر على أحجار نضدت وصخور نصبت من الرخام المرمر قد
رصفت، وهذا الموضع من الرخام والمرمر باق ببلاد الإسكندرية من أرض مصر، يعرف بقبر
الإسكندر).
أما عن آخر المعالم التى لا ينبغى أن تهمل رغم
عدم ذكر قدامى الكتاب العرب أى شئ عنها فهى مكتبة الإسكندرية التى يجرى إحياؤها فى
موضعها القديم فى أرض جامعة الإسكندرية شمال مجمع الكليات النظرية الذى يحوى
كليات: الآداب والتجارة والحقوق. وإذا كانت هناك قصة كانت تقول أنها أحرقت على يدى
عمرو بن العاص فقد أثبت البحث الحديث عدم صحة ذلك.
والمهم أن الإسكندرية ظلت تخضع لتخطيطها
القديم، وقوامه تقسيم المدينة إلى شوارع مستقيمة تتقاطع فى زوايا قائمة أشبه ما
يكون برقعة الشطرنج المستطيلة على طول الساحل، وظل شارعاها الرئيسيان القديمان،
وعرف الأفقى منهما فيما بعد باسم المحجة العظمة، وأصبح الباب الواقع فى شرق المدينة حيث مخرج الشارع الأفقى يسمى
بالباب الشرقى بينما سمى المقابل له من جهة الغرب بالباب الغربى –
وهو الذى عرف مؤخراً بالباب الأخضر.
وفى جنوب الإسكندرية كانت بحيرة مريوط التى
كانت تصل إليها المياه العذبة من النيل، وكانت المنطقة غنية بالبساتين والمزارع فكانت
ضفتى الترعة القديمة فى منطقة مريوط فى نهاية العمارة التى تمتد إلى أرض برقة، كما
كانت السفن تجرى فى النيل وتتصل بأسواق الإسكندرية.
وهكذا يتضح الفرق بين
مساحتى المدينة قبل الفتح العربى وبعده فى الخريطة التى رسمها الفلكى باشا لتخطيط
أسوار المدينة فى العصرين، وقد بنيت للأسوار الجديدة أبواب تقابل الأبواب القديمة،
وإن كانت قد سميت بأسماء جديدة، فالباب الذى بنى فى المشرق مقابل باب الشمس سمى
باب رشيد أو باب القاهرة لأنه كان يؤدى إلى طريق رشيد ومنها إلى القاهرة، والباب
الذى بنى فى الغرب مقابل باب القمر سمى باب القرافة لأنه كان يؤدى إلى جبانة هناك،
وكان لا يفتح إلا يوم الجمعة، ثم بنى فى الجنوب باب سمى "باب سدرة" فقد
كانت تقوم إلى جانبه شجرة عاتية من أشجار السدر، (أبواب العامود لإشرافه على عامود
السوارى)، أما باب البحر فى شمال المدينة فقد بقى كما هو يشرف على الميناء
الشرقية.
هذا أهم تغيير أصاب
المدينة فى العصر الإسلامى يضاف إليه ما استحدث فيها من مساجد، تبعاً لوجود
الحامية العربية بها، وازدياد عددها مع مرور الزمن، وتبعاً لانتشار الدين الإسلامى
بين أهليها، وقد أنشئ بعض هذه المساجد إنشاء، وأقيم البعض الآخر على أطلال المعابد أو الكنائس القديمة، وتشير
مراجع العصر الإسلامى الأول إلى ستة من هذه المساجد، ولكنها لا تحدد مواقعها
تحديداً قاطعاً، وهى:
1-
مسجد سليمان عند
القيسارية.
2-
مسجد الخضر.
3-
مسجد ذى القرنين
(ولعله بنى بالقرب من قبر الإسكندر، ولهذا سمى بهذا الاسم).
4-
مسجد عمرو بن العاص،
وتنص المراجع على أنه بنى فى وسط المدينة كان يسمى أيضاً "مسجد الرحمة"
لأنه بنى فى المكان الذى رفع فيه عمرو السيف عن أهل المدينة حين دخلها عنوة فى
فتحه الثانى.
5-
مسجد موسى، وقد بنى
بالقرب من المنارة.
6-
مسجد المنارة، وقد
بنى داخل المنارة نفسها ليكون مصلى للجند المرابطين فيها.
وقد أعجب عمرو
بالمدينة ومبانيها حتى يقال أنه كتب إلى الخليفة عمر يصفها له بقوله: "لقد
فتح الله علينا مدينة من صفتها أن بها أربعة آلاف قصر، وأربعة آلاف حمام وأربعمائة
ملهى، واثنى عشر ألف بائع للخضر، وأربعين ألفاً من اليهود أهل الذمة".
كذلك يروى أنه
لإعجابه بها فكر فى أن يتخذها عاصمة له، وأنه نظر إلى مبانيها بعد الفتح وقال:
"منازل قد كفيناها"، وكتب إلى عمر يعلن إليه هذه الغربة، لولا أن عمر
أرسل إليه ينصحه باختيار مكان آخر لا يفصل بينه وبين بلاد العرب ماء، فتحول عمرو
منذ ذلك الحين عن الإسكندرية إلى الفضاء المجاور لحصن بابليون، وبنى عليه عاصمته
الجديدة الفسطاط.
ولم يؤثر تأسيس
الفسطاط فى مدينة الإسكندرية، بل لقد حافظت على مكانتها القديمة، واعتبرت من ذلك
الحين العاصمة الثانية لمصر، وظلت دائماً موضع العناية من الخلفاء وولاة مصر، فقد
كانت فى نظرهم جميعاً ثغراً من أهم الثغور الإسلامية التى يجب العناية بها
وبحصونها وبوسائل الدفاع عنها.
لهذا لا نعجب إذا
رأينا المدينة تنمو فى هذا العصر العربى الأول ويزداد عمرانها، فقد استقر بها عدد
كبير من العرب، ونزلوا بيوتها القديمة، أو بنوا لأنفسهم بيوتاً جديدة، تشير
المراجع إلى بعضها، كالبيت الذى بناه الزبير بن العوام بعد الفتح. والمنزل الكبير
الذى كلن ينزله خمارويه بن أحمد بن طولون عند مريوط بضواحى الإسكندرية.
ثم زادت الحامية
العربية بالمدينة حتى بلغت 27 ألفاً يرابطون دائماً فى المدينة لحمايتها، وكانت
هذه الحامية مقسمة إلى عرافات، "ولكل عريف قصر ينزل فيه بمن معه من أصحابه،
فتكون الدار لقبيلتين أو ثلاث، وللمدينة أبراج عالية يقف عليها الحراس، وتسمى مثل
هذه الأبراج المحارس، أو المناظر، أو المراقب، أو الطـلائع، فإذا بدا فى أفق البحر
شئ من سفن العدو أعطى المراقب الإنذار، فاجتمع الجند كل طائفة فى عرافتها، وكان
بالرملة (الرمل حالياً) أربعة آلاف فارس للنجدة".
وكانت المنارة الكبرى
فى جزيرة فاروس أعلى هذه الأبراج وأهمها لإشرافها على البحر مباشرة، وكان المسلمون
يحتفلون حولها كل عام احتفالاً خاصاً يعتبر إيذاناً ببدء موسم الجهاد والاستعداد،
فكان إذا حل فصل الربيع خرج سكان المدينة فى يوم خاص يسمى "يوم خميس
العدس" إلى المنارة يقيمون فيها أو حولها يلهون ويلعبون ويأكلون الأطعمة
المختلفة – ومن بينها العدس – فإذا انتهى اليوم عادوا إلى المدينة، وبدأ
الجنود المرابطون يحترسون من ذلك اليوم على البحر والمدينة من هجوم العدو.
ومن معالم المدينة فى
هذا العصر الدور الحكومية المختلفة وتشير المراجع التاريخية إلى وجودها، غير أنها
للأسف لا تحدد مواضعها، فمنها:
-
دار الإمارة حيث كان
ينزل الوالى.
-
دار الصناعة –
أى صناعة السفن – وكانت من أوائل ما أقيم من منشآت فى
المدينة، فقد أنشئت فى عهد الوالى العربى الثانى عبد الله بن سعد بن أبى السرح
لبناء السفن التى اشتركت فى موقعة ذات الصوارى، أول موقعة بحرية انتصر فيها العرب
على الروم، ولعلها أقيمت حيث كانت توجد دار الصناعة الرومانية القديمة فى الميناء
الشرقية، وإن كان النويرى يذكر أن الإسكندرية كان بها فى القرن الثامن الهجرى
داران للصناعة، إحداهما فى الميناء الشرقية والثانية فى الميناء الغربية.
-
دار الطراز، وهى
الدار الملكية لصناعة المنسوجات، وأغلب الظن أن الإسكندرية الرومانية كانت تعرف
هذا النوع من المصانع، وأن دار الطراز العربية ما هى إلا استمرار لهذا المصنع
الرومانى القديم بعد إدخال التعديلات المناسبة على نظامه.
-
عرف خلفاء العصر
الأول للإسكندرية هذه المكانة الممتازة – حربياً وعمرانياً واقتصادياً –
ولهذا أوشك بعضهم أن يعتبروها إمارة خاصة، فكانوا يولون عليها من قبلهم أمراء
يكادون يستقلون عن ولاة مصر، كما حدث حين ولى أحمد بن طولون – أول مرة – على مصر كلها دون الإسكندرية، فلما توفى
باكباك، وعُين أماجور – حمو أحمد بن طولون – خلفاً له ضم إليه ولاية الإسكندرية كذلك.
وقد شاركت الإسكندرية
– بحكم مركزها هذا – مشاركة فعالة – فى معظم الأحداث السياسية التى شهدتها مصر
فى العصر العباسى الأول، وخاصة فى حوادث النزاع بين أمراء مصر الذين حكموها فى
العصر العباسى الثانى، كما بدأت منذ ذلك العصر تتصل بحوادث المغرب والأندلس –
بحكم موقعها الجغرافى – وخير مثال لذلك استضافتها للأندلسيين الذين طردهم
من الأندلس الحَكَم الرَبَضى بعد ثورات الربض المشهورة.
الإسكندرية
فى العصر الفاطمى
بدأت الإسكندرية تتصل
بالمغرب اتصالاً وثيقاً منذ أوائل القرن الرابع الهجرى حين نجحت الدولة الفاطمية
فى إقامة ملك جديد لها على أنقاض ملك الأغالبة فى إفريقيا (تونس)، فقد كانت
الإسكندرية الهدف الأول لحملات الفاطميين الأولى على مصر – براً وبحراً – وبها نزلت جنود هذه الحملات الأولى الفاشلة وأساطيلها، وبها نزلت
أول ما نزلت جنود وأساطيل الحملة الفاطمية الرابعة التى نجحت فى فتح مصر
وامتلاكها.
ومنذ ذلك الحين أخذت
الإسكندرية – شأنها فى ذلك شأن مصر جميعاً –
تزدهر ازدهاراً عظيماً، فقد أصبحت مصر مقر الخلافة الفاطمية، كما أصبحت الإسكندرية
مقر أسطول هذه الخلافة، - وللفاطميين عناية كبيرة بالأسطول منذ قامت دولتهم فى
إفريقيا -، وهى بعد هذا كله الطريق إلى منشأ ملكهم فى المغرب الذى أصبح ولاية
تابعة لمصر، فلا عجب إذن أن عنى الفاطميون بالإسكندرية عناية خاصة، فأقاموا بها
المنشآت الكثيرة، ولبعض هذه المنشآت أهمية خاصة، لأنها تساعد على تحديد معالم
المدينة وطبوغرافيتها، وأهم هذه المنشآت مما ذكره المؤرخون:
1- جامع العطارين:
يخطئ بعض المؤرخين
فيذكر أن الذى بناه هو بدر الجمالى وزير المستنصر ولكن الصحيح أنه كان يقوم مكانه
مسجد قديم أنشئ على أنقاض كنيسة القديس أثناسيوس، فلما زار بدر الجمالى الإسكندرية
فى
سنة 477 وجد هذا المسجد مهدماً فأمر بتجديده وإعادة بنائه.
والصرف عليه "من أموال أخذها من أهل البلد"، ويؤكد ذلك النص الذى تحمله
اللوحة الرخامية التذكارية التى ثبتها بدر فى الجامع لتأريخ هذا الحادث، والتى لا
تزال موجودة فى الجامع إلى اليوم، ونصها:
"بسم الله
الرحمن الرحيم، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى
الزكاة ولم يخش إلا الله، مما أمر بإنشائه السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام،
ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، أبو النجم بدر المستنصرى
عند حلول ركابه بثغر الإسكندرية ومشاهدته هذا الجامع خراباً، فرأى بحسن ولائه
ودينه تجديده زلفاً إلى الله تعالى، وذلك فى ربيع الأول سنة سبع وسبعين
وأربعمائة".
2- المسجد الذى بناه
الفقيه أبو بكر محمد بن الفهرى الطرطوشى خارج باب البحر بعد
سنة 510 هـ فى خلافة الآمر ووزارة المأمون البطائحى، انفرد بذكر هذا المسـجد
المقريزى فى النسخة المخطوطة الكاملة الوحيدة من كتابه "اتعاظ الحنفا"
التى عثر عليها أخيراً فى مكتبة "طوب قبوسراى" باستنابول، سفقد ذكر بها
أن الطرطوشى انتقل من الإسكندرية إلى القاهرة فى سنة 510 هـ لزيارة الوزير المأمون
البطائحى، وليقدم له كتابه الذى ألفه باسمه وهو كتاب "سراج الملوك"،
فأكرمه المأمون وخلع عليه، وفى ذى الحجة من هذه السنة "حضر الفقيه أبو بكر
لوداع الوزير، وعرفه ما عزم عليه من إنشاء مسجد جامع بظاهر الثغر على البحر، فكتب
إلى ابن حديد بموافقة الفقيه على موضع يتخيره، وأن يبالغ فى إتقانه وسرعة إنجازه،
وتكون النفقة عليه من مال ديوانه دون مال الدولة، وتوجه فبنى المسجد المذكور على
باب البحر".
وهذا المسجد من
المساجد التى زالت.
تجديد سور
الإسكندرية:
وقد
جدد هذا السور فى آخر عهد الخليفة الآمر فى سنة 517هـ، فقد قال المقريزى عند ذكر
حوادث هذه السنة: "وفيها جددت عمارة سور الإسكندرية" وإن كان لم يفصل
أخبار هذا التجديد.
وقد ذكر المقيرزى فى حوادث سنة 577، فقال:
"وفيها شاد الأمير أبو الأشبال ضرغام بن سوار البرج عند باب البحر
بالإسكندرية، فعرف ببرج ضرغام".
وليس أدل على عمران المدينة وما كانت تزدان
به فى العصر الفاطمى من دور وقصور فخمة من
الوصف الذى حفظه المقريزى فى كتابه "الخطط" لدار أحد القضاة بها وهو
"ابن حديد"، فقد ذكر فى وصفه
لهذه الدار أنه كان بها بستان جميل به نافورة كبيرة تتكون من قطعة واحدة من الرخام
البديع، ينحدر فيها الماء فتكون كالبركة فى اتساعها، وذكر المقريزى أن صاحبها كان
يباهى بها أهل العصر إلى أن علمت بها البدوية
حبيبة الخليفة الآمر
الفاطمى فطلبتها، وأجيبت إلى طلبها، وحملت النافورة إلى القاهرة، وركبت فى بستان
"الهودج" وهو القصر الجميل الذى بناه الآمر لمحبوبته فى جزيرة الروضة،
وتألم ابن حديد لفقده هذه النافورة ألماً بالغاً، وما زال يتقرب للبدوية بالهدايا
إلى أن أمرت برد النافورة إليه.
ولمكانة الإسكندرية، ولازدياد عدد المغاربة
بها فى هذا العصر الفاطمى، ولقربها من
المغرب - موطن الدولة الفاطمية الأول –
ظلت تشارك فى الأحداث السياسية الهامة التى حدثت فى عصر هذه الدولة، فعند موت
الخليفة المستنصر وتولية المستعلى – بسعى الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى – فرَّ الأمير نزار المطالب بالخلافة إلى
الإسكندرية، واستعصم بها وبأهلها، وكانت فتنة خطيرة لم تخمد إلا بعد جهود حربية
مضنية بذلها الأفضل وجيشه.
وفى عهد الخليفة الظافر زحف على بن السلار –
والى الإسكندرية والبحيرة – بجيوش المدينة إلى القاهرة، واستطاع أن يعزل
الوزير ابن مصال، وأن يلى الوزارة بعده، وكان لهذه الحوادث جميعاً –
دون شك – أثر فى تخريب المدينة.
الإسكندرية
فى العصر الأيوبى
الزمان :
567هـ.
المكان :
الإسكندرية فى العصر الأيوبى.
الإنسان :
صلاح الدين الأيوبى.
وكما اتصل تاريخ المدينة بتاريخ الفاطميين منذ
قدومهم إلى مصر، فقد اتصل مرة أخرى بتاريخ بنى أيوب منذ الحوادث التى أدت إلى قيام
دولتهم فى مصر، ففى الحملة الثانية من حملات أسد الدين شيركوه على مصر استعصم صلاح
الدين يوسف بن أيوب بمدينة الإسكندرية، واحتمى بأسوارها، وظل محاصراً بها أربعة
أشهر طوالاً، قاسى فى خلالها الأمرين، ولكنه صمد للحصار بمعونة واليها وناظرها
وقاضيها، وبمساعدة أهليها، فقد كان معظمهم سنيى المذهب لا يدينون بالمذهب الشيعى –
مذهب الدولة الفاطمية الرسمى.
وفى سنة 567هـ – وهى أول سنة استقل فيها صلاح الدين بأمور مصر
– دبرت مؤامرة لعزله وإعادة الدولة المنتهية، وكان قوامها أنصار الدولة
الفاطمية وفرنج صقلية، وقد وفد هؤلاء الفرنج إلى الإسكندرية فى أسطول ضخم فى سنة
569، واستطاعوا النزول إلى بر الإسكندرية، وعسكروا خارج أسوارها، وهاجموا هذه
الأسوار بمجانيقهم، غير أن حامية المدينة استطاعت الصمود لهم، وردتهم عنها مدحورين
منهزمين.
فلا عجب إذن أن رأينا صلاح الدين يعنى
بالإسكندرية عناية خاصة، فيصدر أوامره بإصلاح أسوارها وترميم حصونها وأبراجها
وقلاعها، وعندما فرغ من الصعوبات التى اعترضته جميعاً سافر إليها فى رمضان سنة
572هـ ليشرف بنفسه على هذه الإصلاحات والتحصينات، وانتهز فرصة وجوده بها وزار
أسطولها فوجده خرباً قد نالت منه السنون والأحداث، فأمر بتعميره وإنشاء سفن جديدة
لتقويته، وأفرد له ديواناً خاصاً سماه (ديوان الأسطول).
ويبدو أن صلاح الدين لم يعن بإنشاء دار
الصناعة وتعمير الأسطول فقط، وإنما اتخذ وسائل أخرى لتحصين الثغر حماية له من
غارات الأعداء، فقط ذكر المقريزى فى خططه
عند كلامه عن "عامود السوارى" أنه "كان حوله نحو أربعمائة عمود،
كسرها (قراجاً) والى الإسكندرية فى أيام السلطان صلاح الدين الأيوبى يوسف بن أيوب،
ورماها بشاطئ البحر، ليصعب على العدو مساره إذا قدموا".
وكان فى المدينة نشاط علمى ملحوظ يقوم به
العلماء من أهليها ومن الوافدين عليها من الشرق والغرب، وقد نالت هذه الحركة
العلمية الشىء الكثير من تشجيع صلاح الدين، فكان يحرص فى زياراته المتعددة للمدينة
على زيارة كبيرى علمائها: الحافظ السلفى، والحافظ بن عوف والاستماع إلى دروسهما
وفى صحبته أولاده وكبار رجال دولته.
وفى زيارته الأخيرة للمدينة فى سنة 577 (1882)
أنشأ صلاح الدين مدرسة جامعة – ولسنا نعرف للأسف شيئاً عن موقعها أو
تاريخها – كان يدرس بها مختلف العلوم والفنون، وألحق
بها مساكن للطلبة وحمامات يستحمون بها، ومارستاناً لعلاج من يمرض منهم، وقد وصف
هذه المدرسة الجامعة الرحالة المعروف ابن جبير عند زيارته للإسكندرية بعد ذلك
بقليل.
واتباعاً لسياسته فى القضاء على المذهب الشيعى
وعلى آثار الدولة الشيعية المنتهية أمر ببناء مسجد جديد فى الإسكندرية، ونقل
الخطبة عليه، بعد أن كانت تقام فى العصر الفاطمى فى أكبر مساجد المدينة فى ذلك
العصر مسجد العطارين (أو مسجد الجيوشى)، ولم يتم التعرف على مكان هذا المسجد
الهام، لأن المراجع التى ذكرته لم تشر إلى موقعه.
وكان لهذه العناية الملحوظة التى أسبغها صلاح
الدين على ثغر الإسكندرية أثرها البالغ فى تقدم المدينة ورفاهية أهلها وازدياد
عمرانها ونشاط تجارتها الداخلية.
وهذه الإشارة إلى المساجد تعطينا صورة واضحة
كذلك لما كانت عليه المدينة من عمران فى العصر الفاطمى السابق، لأن هذه الآلاف من
المساجد لم تبن قطعاً فى أوائل عهد صلاح الدين، وإنما بنيت فى العصور السابقة،
وخاصة فى العصر الفاطمى.
كما أن هذه الإشارة إلى المبانى الفوقية –
وهى الدور والمنازل – والمبانى التحتية المعتنى بها –
وهى الآبار والصهاريج – يؤكد صحتها ما يتردد من أقوال مشابهة فى كتب
الرحالة والجغرافيين العرب الآخرين عند وصفهم لمدينة الإسكندرية فى العصر
الإسلامى.
وقد زار الإسكندرية الرحالة اليهودى
"بنيامين التطيلى" فى السنوات الأولى من حكم صلاح الدين –
أى قبل زيارة ابن جبير لها بنحو 17 سنة -، ووصف المدينة وشوارعها ومبانيها وصفاً
ممتعاً لا يختلف كثيراً عن وصف ابن جبير لها، وإن كان هذا الوصف يؤكد أن المدينة
كانت لا تزال تحافظ على تخطيطها العام الذى عرفت به من أقدم العصور، فقد قال:
"ومدينة الإسكندرية مشيدة على طبقات. معقود تحتها الكهوف والمغاور، وشوارعها
مستقيمة لا يحد البصر آخرها لطولها. فالشارع الممتد من باب رشيد إلى باب البحر
ينوف على الميل طولاً، وفى مرساها رصيف يمتد فى البحر إلى مسافة ميل أيضاً".
ثم عنى عناية خاصة بوصف منار الإسكندرية، وأتى
على طرف من تاريخه ختمه بقوله: "ولا يزال منار الإسكندرية يهدى السفن الغادية
والرائحة، ويشاهد عن بعد مائة ميل نهاراً، وفى الليل ينبعث منه نور يهتدى به
الملاحون".
وأهم ما فى وصف بنيامين وصف دقيق مفصل أحصى
فيه الممالك والأقطار الأجنبية التى كانت تتبادل التجارة مع الإسكندرية فى ذلك
الوقت، ومن هذا الوصف نعرف أن أنواع التجارة وألوانها المختلفة كانت تتدفق إلى
الإسكندرية من كل بلدان أوروبا المسيحية، ومن كل بلدان الشرق الإسلامية والخارجية،
فقد زارها
الرحالة ابن جبير أواخر سنة 578هـ (1182م)
ووصفها بقوله: "إنا ما شهدنا بلداً أوسع مسالك منه، ولا أعلى مبنى، ولا
أعتق ولا أحفل منه. وأسواقه فى نهاية من الاحتفال أيضاً، ومن العجب فى وضعه أن
بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق ديارها
وأزقتها تحت الأرض، فتتصل الآبار بعضها ببعض، ويمد بعضها بعضاً... وهو من أكثر
بلاد الله مساجد، حتى أن تقدير الناس لها يختلف، فمنهم المكثر والمقل، فالمكثر
ينتهى فى تقديره إلى اثنى عشر ألف مسجد، والمقلل ما دون ذلك، ولا ينضبط، فمنهم من
يقول ثمانية آلاف، ومنهم من يقول غير ذلك، وبالجملة فهى كثيرة جداً، تكون منها
الأربعة والخمسة فى موضع، وربما كانت مركّبة. وكلها بأئمة مرتبين من قبل السلطان،
فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية فى الشهر... ومنهم من له فوق ذلك، ومنهم من له
دونه، وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان (يقصد صلاح الدين) إلى غير ذلك مما يطول
ذكره فى المآثر... الخ".
هذا وصف هام للمدينة وعمرانها فى أوائل عصر
صلاح الدين، وإن كان يعيبه شئ من المبالغة والإجمال، فهو لا يعين بالاسم أهم هذه
المساجد والمنشآت أو يحدد مواضعها، إلا أنه وصف صادق تؤيده الرسومات التى رسمت
للمدينة فى العصور الوسطى، فهذان الرسمان اللذان رسمهما فى القرنين 15 و16 يبدو
فيهما واضحاً فروع الخليج التى تخترق شوارع المدينة لتمد منازلها وآبارها
وصهاريجها بالمياه العذبة، كما تبدو فيهما بوضوح أيضاً هذه المآذن الكثيرة التى –
كما يقول ابن جبير – بين ثمانية آلاف فى رأى المقلل، واثنى عشر
ألف فى رأى المكثر.
والجديد فى وصفه إشارة إلى نوع جديد من
المنشآت عرفته الإسكندرية والثغور المصرية فى العصور الوسطى، وهو الفنادق التى كان
يأوى إليها تجار الممالك والدول الأوروبية المختلفة، ويسكنون فى أعاليها، ويعرضون
بضاعتهم فى أسفلها، قال بنيامين: "وتأيتها من الهند التوابل والعطور
بأنواعها، فيشتريها تجار النصارى، ولتجار كل أمة فندقهم الخاص بهم، وهم فى ضجة
وجلبة يبيعون ويشترون"، وهو وإن لم يشر فى وصفه إلى مكان هذه الفنادق أو
يصفها إلا أننا نستطيع أن نرجح أنها كانت تقوم داخل المدينة بالقرب من باب البحر
الذى كان يطل على الميناء الشرقية مباشرة – مرسى سفنهم – أى حيث يقوم حى المنشية وشارع الميدان
الحاليان.
وإن كانت رحلة بنيامين تعطينا صورة واضحة عن
تجارة الإسكندرية الخارجية فى عصر صلاح الدين، فإن كتاب قوانين الدوواين لابن
مماتى بع إشارات كثيرة إلى نشاط التجارة الداخلية للإسكندرية فى هذا العصر.
وعلى نهج صلاح الدين فى العناية بالإسكندرية
سار معظم من أتى بعده من ملوك بنى أيوب، فإن المراجع تذكر أن ابنه العزيز عثمان
زار المدينة مرتين – بالرغم من قصر مدة حكمه - للإشراف على شؤونها، وأن أخاه العادل أبا بكر
زارها ثلاث مرات "لكشف أحوالها"، ولكننا مع هذا لا نعرف أن أحداً منهم
قد أقام بها منشآت جديدة.
الإسكندرية
فى العصر المملوكى
وفى عصر المماليك ارتفعت مكانة الإسكندرية حتى
أصبحت ميناء مصر الأولى، وثانى مدينة بعد
القاهرة، وذلك لسببين: أحدهما اقتصادى، والثانى حربى.
أما السبب الاقتصادى فمرجعه أن تجارة مصر
الخارجية مع الشرق والغرب قد ازدهرت فى هذا العصر ازدهاراً عظيماً، حتى لقد أصبحت
الرسوم على التجارة الخارجية تكون جزءاً كبيراً من دخل الدولة، وإذ كانت
الإسكندرية هى ميناء المرور لهذه التجارة الشرقية والغربية فإنه من السهل أن نتصور
مبلغ ما نعمت به المدينة وأهلها من رخاء وثروة، ومبلغ ما كان لهذه الثروة من اثر
فى عمرانها ونموها وازدهارها.
وأما السبب الحربى فمرجعه إلى تحول أنظار
الصليبيين، أو بعبارة أدق – بقاياهم فى جزر البحر الأبيض المتوسط
وأوروبا – إلى الإسكندرية بعد أن منيت الحركة الصليبية بالفشل الذريع فى حملتيها على
دمياط فى عهدى الملك الكامل محمد والملك الصالح نجم الدين أيوب.
وقد رأت الدولة المملوكية بعد فشل الحملة
الأخيرة الصواب فى هدم مدينة دمياط حتى لا يفكر الصليبيون فى تجديد الإغارة عليها،
ومنذ ذلك الحين، ومنذ أحس سلاطين المماليك تحول الأنظار إلى الإسكندرية بدأت
عنايتهم بهذه المدينة، واستجاب الأهالى لهذه الرغبة، فأخذوا يعملون من جانبهم على
المشاركة فى تحصين المدينة والدفاع عنها.
أما تخطيط المدينة العام فلم يتغير فى هذا
العصر، وإنما بقى هو هو كما عهدناه فى العصور السالفة، وإنما خضعت المدينة فى هذا
العصر لشىء من التغيير تبدو مظاهره فى زوال بعض المنشآت القديمة المعروفة، وإقامة
منشآت جديدة كثيرة هى صدى للرخاء الاقتصادى الذى نعمت به المدينة فى هذا العصر،
وللعناية البالغة التى أسبغها سلاطين المماليك على المدينة.
أما المنشآت الجديدة فكانت فى معظمها من وحى
الروح التى سادت العصر، وهى روح الجهاد الدينى: الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم؟، لهذا امتدت الحركة التى امتاز بها
العصران الأيوبى والمملوكى، وهى حركة إنشاء المدارس والخوانق والربط والزوايا حتى
شملت الإسكندرية، فأنشئ فى الإسكندرية فى العصر المملوكى عدد كبير من هذه المؤسسات
العلمية التى تقوم – فى معظمها – على أساس من التصوف وما يستتبعه من شعر صوفى
ودراسات وابتهالات صوفية، - وفى أقلها – التفقه فى العلوم المختلفة.
مسجد أبى
العباس المرسى:
توفى هذا الصوفى المغربى العظيم فى ذى القعدة
سنة 685هـ (1287) فدفن فى قبره المعروف بالجبانة القديمة إزاء رباط الشاطبى خارج
باب البحر من ظاهر الإسكندرية بمحرس سَوّار قريباً من قبة المغاورى، وظل قبره
قائماً وحده دون بناء يحيط به، ويقصده الزوار للتبرك به إلى أن كانت سنة 706هـ
(1307) حيث زاره كبير تجار الإسكندرية وقتذاك الشيخ زين الدين بن القطن، وبعد هذه
الزيارة بنى على القبر ضريحاً وقبة، وأنشأ له مسجداً حسناً ذا منارة مربعة الشكل،
وحبس على الجميع بعض أملاكه".
أما عناية السلاطين
فكانت أهدافها المنشآت الحربية والدينية والعمرانية القديمة فى المدينة، يوالونها
بالإصلاح والترميم والتحصين والتقوية، وقد يقيمون إلى جانبها منشآت جديدة من نفس
النوع، وأهم ما عنى به سلاطين المماليك من هذه المنشآت: المنارة، والأسوار، وما يتصل بها من قلاع وأبراج وحصون، والخليج،
والدور الحكومية المختلفة: كدار الصناعة، ودار الطراز، ودار الضرب، ودار النيابة،
وخزائن السلاح – الخ، وأخيراً المساجد والمدارس، وما يتصل
بها.
كان السلطان الملك
الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى أول من توفر على العناية بالإسكندرية من سلاطين
المماليك، فقد ذكرت المراجع أنه زار المدينة أربع مرات، وأنه كان يترك بها فى كل
زيارة من هذه الزيارات أثراً يدل على مبلغ اهتمامه بها.
أما الزيارة الأولى
فقد وصفها المؤرخ جمال الدين بن واصل فى كتابه "مفرج الكروب فى أخبار بنى
أيوب" لوصفه أهمية خاصة فقد كان شاهد عيان لها، لأنه كان فى معية السلطان،
وقد ذكر فى هذا الوصف أن السلطان دخل من باب رشيد، وأنه أمضى نهاره كله فى الإشراف
على مهمات الثغر وأمور المدينة، ثم أمر بكسوة الجامع وعمل قناديله وعمارته من ماله
الخاص، واتجه بعد ذلك لزيارة الشيخ القبارى – وكان يقيم فى بستانه بأطراف المدينة – فلما أتاه وتحدث إليه لم يكن الشيخ من حاجة
يزجيها إلى السلطان إلا نصحه إياه أن يعنى بعمارة الثغر وتحصينه، فقدر بيبرس نصحه
وخرج من عنده فقصد مباشرة إلى أسوار المدينة فطاف بها وأمر بترميمها والعناية بها،
ثم اتجه بعد ذلك لزيارة شيخ الإسكندرية ومتصوفها الثانى الشيخ الشاطبى.
وفى زيارته الثانية سنة 664هـ (1265) لاحظ
بيبرس أن خليج الإسكندرية قد طمرته الرمال فى بعض أطرافه، فاهتم بحفره، وباشر
الحفر بنفسه، وعمل فيه الأمراء وسائر الناس حتى زالت الرمال التى كانت على الساحل بين النقيدى وفم الخليج.
وفى سنة 671 (1272) علم بيبرس –
وهو مقيم بالقاهرة – بتأهب الفرنج للحركة نحو ثغور مصر، فاهتم
بأمر الشوانى "ونصب على أسوار الإسكندرية نحو مائة منجنيق" لإحكام
الدفاع عنها.
وفى زيارته الرابعة سنة 673 (1274) لاحظ بيبرس
أن منارة الإسكندرية قد تهدمت وتشعث بنائها، فأمر ببناء ما تهدم منها، وأنشأ فى
أعلاها مسجداً مكان قبة كان قد أقامها هناك أحمد بن طولون، ثم أسقطتها الرياح فى
سنوات سالفة.
وكان الناصر محمد بن قلاوون ثانى من اهتم بثغر
الإسكندرية من سلاطين المماليك، ففى سنة
702 (1302)، وفى عهد سلطنته الثانية، حدث بالشرق الأدنى زلزال، وأصاب هذا الزلزال
فيما أصاب مدينة الإسكندرية ومنارها وسورها وحصونها، وقد روى المقريزى أن ما هدم
من السور كان ستاً وأربعين بدنة وسبعة عشر برجاً، وأن السلطان قد كتب إلى والى
الإسكندرية بعمارتها فعمرها، أما المنار – وكان قد سقط من أعلاه نحو أربعين شرفة –
فقد عمره الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير سنة 703هـ.
ويبدو أن العناية بترميم ما هدم من المنار لم
تكن كبيرة، فقد زاره ابن بطوطة فى رحلته الأولى إلى مصر سنة 725هـ (1325) 0 أى بعد
حوادث الزلزال بثلاث وعشرين سنة – وقرر أنه رأى أحد جوانبه مهدماً، ولعل السر
فى هذا أن الناصر محمداً كان قد اعتزم إقامة منار جديد بإزاء المنار القديم، لهذا
أهمل المنار القديم طول عهده حتى نالت منه يد البلى والخراب، ولم يعد صالحاً
للاستعمال البتة، فلما زاره ابن بطوطة فى رحلته الثانية فى سنة 750 (1349-1350)
وصفه بقوله: "وقصدت المنار عند عودتى إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة،
فوجدته قد استولى عليه الخراب بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه، وكان الملك
الناصر قد شرع فى بناء منار مثله بإزائه فعاقه الموت عن إتمامه".
ولهذا الوصف أهمية خاصة، فهو يشير إلى معلم
جديد من معالم المدينة، وهو المنار الجديد الذى أنشئ بإزاء المنار القديم –
أى فى نهاية رأس لوكياس أو رأس السلسلة – وأن هذا المنار بدئ فى بنائه فى عهد الناصر
محمد بن قلاوون، وأنه تم فى عهود من أتى بعده من السلاطين، ويؤكد أقوال ابن بطوطة
أننا نرى هذا المنار الجديد مثبتاً واضحاً فى الرسومات التى رسمت للمدينة بعد ذلك
بقليل فى القرن الخامس عشر الميلادى وما بعده..
أما أكبر هدية قدمها الناصر للإسكندرية فهى
الخليج الناصرى، فقد بلغه فى سنة 710 – وفى عهد سلطنته الثالثة –
أن خليج الإسكندرية القديم قد طمرته الرمال فلم تعد مياه النيل تصل إلى المدينة،
وأصبح سكانها يشربون من المياه المخزونة فى الصهاريج، وأن السفن لم تعد تصل
بالتجارة وبالبضائع إلى الإسكندرية، وسافر متولى الإسكندرية إلى القاهرة وقابل السلطان الناصر، وبين له
المنافع التى تعود على المدينة خاصة، وعلى الدولة عامة لو أعيد حفر الخليج.
وأعجب السلطان بالفكرة، وندب الأمراء للإشراف
على تنفيذ المشروع، وكان يشترك فى حفر الخليج أربعون ألف رجل، وأفرد لأهل كل ناحية
قطعة يحفرونها حتى كمل، وتنفيذ هذا المشروع يعد من أهم الأعمال العمرانية التى تمت
فى عهد الناصر محمد – إن لم يكن أهمها -، فقد انتقل بمخرج الخليج
من الضهرية (أو الظاهرية وهى شمال كفر الزيات بقليل) إلى العطف حيث تخرج ترعة
المحمودية الحالية، ثم أنشأ الجزء الواصل من العطف إلى كفر الحماية إلى
الإسكندرية، وعظمت المنفعة بتنفيذ هذا المشروع، فإن السفن جرت فيه طول السنة،
واستغنى أهل الإسكندرية عن شرب ماء الصهاريج، وبادر الناس للعمارة على جانبى الخليج، فلم يمض غير قليل حتى استجد –
كما يقول المقريزى – ما يزيد على مائة ألف فدان زرعت بعد ما كانت
سباخاً، وما ينيف على ستمائة ساقية برسم القلقاس والنيلة والسمسم، وفوق الأربعين
ضيعة، وأزيد من ألف غيط بالإسكندرية، وعمرت منه عدة بلاد كثيرة، وتحول عالم عظيم
إلى سكنى ما استجد فيه.
يعنينا من هذا الوصف ما يشير إليه المقريزى من
آثار حفر هذا الخليج على المدينة تجارياً وعمرانياً، وإمكان زراعة ألف غيط جديد
داخل مدينة الإسكندرية، وهذه حقيقة تؤكدها رسومات المدينة، فالأجزاء الجنوبية من
المدينة تغطيها – فى هذه الرسومات – الحقول والبساتين.
وظل هذا الخليج – الذى سمى بالناصرى منذ لك الحين –
يجلب هذه المنافع إلى الإسكندرية ومديرية البحيرة ستين سنة كاملة، أى إلى سنة
770هـ (1368) حيث قلت العناية بتطهيره، فطمرته الرمال، وصار الماء لا يدخل إليه
إلا فى أيام الفيضان، ثم يجف زمن التحاريق، فتلف من اجل هذا أكثر بساتين
الإسكندرية وخربت، وتلاشى كثير من القرى التى قامت على ضفتى هذا الخليج، وظل
الخليج على هذه الحال السيئة ستاً وخمسين سنة أخرى إلى أن تداركه السلطان الملك
الأشرف برسباى بعنايته، فأعاد حفره فى سنة 826 (1423).
وتوفى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون،
وخلفه على عرش مصر عدد كبير من أولاده وأحفاده لم تكن لهم شخصيته الفذة ولا همته
العالية، بل كان معظمهم أطفالاً صغار السن، فاستبد بشؤون الملك دونهم كبار الأمراء
من المماليك، وكثرت المنافسات بين هؤلاء الأمراء حتى شغلهم النزاع فى سبيل
الاستئثار بالسلطان عن العناية بشؤون مصر عامة، والثغور خاصة.
واتجهت أنظار بقايا الصليبيين فى قبرص إلى
الإسكندرية، ووصلت أساطيلهم بقيادة "بطرس لوسيان Pierre I de Lusignan"
- ملك قبرص – إليها فى سنة 767هـ (1365) –
أى فى عهـد السـلطان الطفل الأشـرف شعبان حفيد الناصر محمد.
واستطاع جنود هذه الحملة أن ينزلوا إلى البر،
وأن يقتحموا أبواب المدينة ويدخلوها بعد مقاومة ضئيلة، ولم يستطع جنغرا –
والى المدينة – أن يصمد لمقاومة القبارصة، ففر إلى دمنهور،
وفر معه من استطاع النجاة بنفسه من الجند والأهالى، وعاث الصليبيون فى المدينة
فساداً، فقتلوا معظم من بقى بها، وأسروا
الباقين، وخربوا المدينة تخريباً تاماً، وهدموا دورها وقصورها، ونهبوا فنادقها
ومتاجرها، ونقلوا هذا كله إلى سفنهم، ولم ينقذ المدينة إلا اختلاف دب بين رجال
الحملة، فقرروا مغادرة الإسكندرية والعودة إلى جزيرتهم بعد أن
قضوا بها أربعة أيام لم يتوانوا خلالها عن
التخريب والتدمير والنهب والسلب، ووصلت نجدة السلطان بعد أن غادر جنود الأعداء
المدينة، وبعد أن "أخذوا من الأموال ذهباً وحريراً وبهاراً وغير ذلك ما لا
يحد ولا يوصف".
وقد شعر السلطان الملك الأشرف شعبان منذ تلك
الوقعة أن الإسكندرية قد غدت محط أنظار الفرنج، فزادت عنايته بها، ورفع مكانتها،
وزاد فى قدر حاكمها، فبعد أن كانت ولاية يليها والٍ من أمراء الطبلخاناه جعلها
الأشرف شعبان – فى نفس السنة التى غزاها فيها القبارصة –
نيابة يحكمها نائب من الأمراء المقدمين، له ما للسلطان فى القاهرة، فله دار
النيابة – وهى مقر حكمه -، وجعل فى دار النيابة هذه
كرسى للسلطنة، كما رسم بأن يكون للنائب مواكب رسمية خاصة تسير فى طريق محدد –
شأن المواكب السلطانية بالقاهرة – فكان موكب نائب الإسكندرية يبدأ من دار
النيابة، فيخرج من باب البحر، ويسير خارج المدينة قدر ساعة، ثم يعود من نفس الطريق
إلى دار النيابة، فإذا كان الموكب من المواكب التى يتلوها السماط وضع كرسى السلطنة
فى صدر الإيوان مغشى بالأطلس الأصفر، ووضع عليه سيف بمنجاة سلطانية، ومد السماط
تحته، وجلس النائب فى ناحية من الإيوان بجوار شباك يطل على الميناء، وجلس رجال
الدولة بترتيب خاص، شأنهم فى ذلك شأن رجال الدولة فى مجلس السلطان بالقلعة.
وهذا الوصف للموكب ، وإن كان لا يحدد موقع دار
النيابة تحديداً دقيقاً – إلا أنه يمكن تحديد هذا الموقع تحديداً
تقريبياً؟، لأنه ينص على أن شباكها الذى كان يجلس النائب إلى جانبه كان يطل على
الميناء، والمقصود هنا الميناء الشرقية، لأن الوصف نص مرة ثانية على أن الموكب كان
يبدأ من دار النيابة، ثم يخرج من باب البحر، وباب البحر هو المؤدى إلى الميناء
الشرقية، فدار النيابة إذن كانت فى مكان ما بميدان محمد على الحالى بحيث تطل على
الميناء الشرقية.
ولهذا الوصف أهمية أخرى عند التعرف على
طبوغرافية المدينة فى هذا العصر المملوكى، فهو ينص على أن الموكب كان يسير بعد
خروجه من باب البحر خارج المدينة قدر ساعة، أى أن هذه الرقبة التى تصل
المدينة بجزيرة فاروس كانت حتى أواخر القرن الثامن الهجرى لا تزال تعتبر من أرباض
المدينة، وأنها لم تكن قد سكنت بعد، وستفيدنا هذه الحقيقة عند تتبع طبوغرافية
المدينة وما طرأ عليها فى العصر العثمانى، فإن العمران سيتحول فى هذا العصر عن
المدينة، ويمتد إلى هذه الرقبة ويستقر بها حيث تصبح هى وحدها المدينة كل المدينة.
وفى سنة 770هـ (1368-1369) كان السلطان الملك
الأشرف شعبان قد شارف البلوغ وقارب السادسة عشرة من عمره، واستطاع أن يدبر شؤون
الحكم بنفسه، فرأى أن يذهب إلى الإسكندرية ليشرف على حصونها ومنشآتها وأسوارها
ووسائل الدفاع عنها، وقد شاهد هذه الزيارة المؤرخ السكندرى محمد بن القاسم بن محمد
النويرى، ووصفها وصفاً مسهباً، ولهذا الوصف قيمة خاصة لأنه يتضمن بيانات نادرة عن
تاريخ المدينة وطبوغرافيتها فى ذلك الوقت، وبمراجعته نستطيع أن نرسم تصوراً
تفصيلياً للمدينة وأسوارها وأبوابها والكثير من أحيائها ومعالمها وشوارعها فى ذلك
العصر، فهو يذكر أن السلطان دخل المدينة من باب
رشيد، ثم يعدد الأحياء التى مر بها إلى أن وصل
إلى باب البحر المقابل للميناء الشرقية، فيقول إنه سار – بعد دخوله من باب رشيد –
فيما كان يسمى وقتذاك بالمحجة العظمى – وهو ما نرجح أن يكون شارع فؤاد الأول الحالى
أو الطريق الكانوبى القديم -. ومنها إلى جفار القصارين، إلى الصادر، إلى أن خرج من
باب البحر، فنثر عليه مقابل دار العدل ودار الطراز دنانير كثيرة التقطها الناس.
هذه أحياء ومعالم قد زالت ولم يعد لها اثر فى
الإسكندرية الحديثة، وإنما بقيت لها دلالاتها الهامة عند كتابة تاريخ المدينة
العمرانى والاقتصادى، فالنويرى يذكر أن الطريق إلى باب البحر كان فى نهايته –
وبالقرب من هذا الباب – جفار القصارين، وهو ساحة يباشر فيها
القصارون تقصير الثياب، أى دقها وضربها، وهى مرحلة صناعة النسيج فى تلك العصور،
وبالقرب من ذلك الجفار معلمان اقتصاديان هامان، أحدهما له أهمية تجارية –
وهو الصادر – أى مخازن التجارة الصادرة إلى الخارج تحملها
سفن الفرنجة التى كانت تفد إلى الميناء الشرقية فحسب، ولا تجرؤ على الدخول فى
الميناء الغربية الخاصة بسفن المسلمين، وثانيهما له أهمية صناعية وهو دار الطراز،
ودار الطراز مصطلح كان يطلق فى تلك العصور على مصنع النسيج، وهى على نوعين: دار الطراز
الخاصة وبها تنسج ملابس السلطان وخاصته وحريمه، والخلع على رجال الدولة فى
المناسبات الخاصة، ودار الطراز العامة، وبها تنسج الأقمشة الشعبية.
ويفهم من وصف النويرى أيضاً أن الإسكندرية فى
أواخر القرن الثامن الهجرى كان يحيط بها أسوار ثلاثة، أحدها داخلى مما يلى البلد،
وثانيها خارجى يشرف على ما يحيط بها، والثالث بينهما، فهو يقول وهو يصف موكب
السلطان عند دخوله المدينة: "... إلى أن خرج من باب البحر الذى يلى البلد، ثم
سار وخرج من باب البحر الثانى، ثم الثالث؟، فشاهد البحر المالح، والميناء بها
مراكب الفرنج".
وكان هناك بين كل سور والآخر فصيل يفصل
بينهما، كما كان للسور الخارجى المطل على البحر أبراج وقلاع ضخمة مشحونة بالعدد
والأسلحة والأتراس وتخفق عليها الأعلام.
وكان للسور الخارجى أبواب عدة، أهمها: باب
رشيد فى شرق المدينة، وباب البحر فى شمالها، الباب الأخضر وباب القرافة فى غربها،
وباب سدرة أو باب العامود أو باب البهار فى جنوبها.
وذكر النويرى أيضاً أن الأشرف شعبان لما خرج
من باب البحر الخارجى شاهد الخندق الجديد الذى أنشأه نائب المدينة الأمير صلاح
الدين بن عرام بعد واقعة القبارصة "ولم يكن قبل فى ذلك المكان خندق"،
كما ذكر أنه كان هناك خندق آخر يحيط بالسور من ناحيته الغربية عند الباب الأخضر.
وفى وصف النويرى تحديد لبعض معالم المدينة
الهامة الأخرى، فهو يذكر أن دار صناعة السفن كانت تقوم بالقرب من دار الطراز، وأنه
كان بالمدينة داران للصناعة إحداهما بالميناء الشرقية، والثانية بالميناء الغربية،
كما كان قصر السلاح بالقرب من الباب الأخضر، وهو قصر ذو قاعات كثيرة مملوءة
بالأسلحة والعدة والعتاد، أنشأ كلاً منها سلطان من سلاطين المماليك وسماها باسمه،
وقد رسم السلطان الأشرف شعبان – فى زيارته هذه – أن تنشأ بالقصر قاعة جديدة تحمل اسمه، وكان
لهذا القصر مسجد ملحق به، وبالقرب من الباب الأخضر أيضاً يقوم ضريح الشيخ أبى بكر
الطرطوشى، وعلى مسافة منه الجامع الغربى أكبر جوامع المدينة فى ذلك العصر.
هذه هى الإسكندرية حتى أواخر القرن الثامن
الهجرى (14م)، غير أننا نلاحظ أن غزوة القبارصة كانت بالغة الأثر فى تاريخ المدينة
وعمرانها، فقد قضت على الكثيرين من سكانها قتلاً وأسراً، كما خربت الكثير من
معالمها، أما أهلها الذين فروا منها أثناء الواقعة، فإنهم لم يعودوا إليها جميعاً،
فقل سكانها، واتضعت أحوالها، يقرر هذه الحقيقة المقريزى بقوله: "... فكانت
هذه الواقعة من أشنع ما مر بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلت أحوالها واتضع
أهلها، وقلت أموالهم، وزالت نعمهم".
فإذا كان القرن التاسع الهجرى فقد سارت
الإسكندرية نحو التأخر والخراب خطوات حثيثة، ولم يلتفت إليها من سلاطين هذا القرن
إلا اثنان: الأشرف برسباى الذى أمر فى سنة 826 بإعادة حفر خليجها، وكانت قد طمرته
الرمال وتعطلت السفن عن السير فيه، والأشرف قايتباى الذى زار المدينة فى سنة 882هـ
(1477)، وأمر ببناء برجه الجديد حيث كانت تقوم المنارة القديمة التى كانت قد تهدمت
تماماً فى ذلك الوقت، وقد تم بناء هذا البرج بعد سنتين – أى فى سنة 884 (1479)، وهو ما عرف ببرج قايتباى ثم طابية قيتباى، التى لا
تزال قائمة فى مكانها حتى اليوم، والتى أصبحت منذ ذلك الوقت من أهم المعالم المميزة للمدينة، وإن كانت قد نالها شئ من
التغيير، وخاصة زوال مسجدها الذى كان يبدو واضحاً بمأذنته العالية فى الرسومات
التى رسمت للمدينة فى القرون 16،17، 18.
ونضيف إلى ما سبق أن بعض نواب المدينة كانوا
يبذلون بعض الجهد لإصلاح أحوال المدينة، وقد أقام نفر منهم بعض المنشآت فيها، ومن
هؤلاء:
الأمير قجماس الإسحاقى الظاهرى الذى ولى نيابة
المدينة من سنة 875 إلى سنة 880، فإن المراجع تذكر أنه بنى بها مسجداً خارج باب
رشيد، وأنشأ إلى جانبه تربة له وخاناً يأوى إليه المسافرون لينالوا شيئاً من
الراحة قبل دخولهم المدينة، كما أنه أنشأ رباطاً خارج باب البحر، وجدد جامع
الصوارى خارج باب سدرة، وقد زالت مبانيه هذه جميعاً ولم يبق لها أثر.
وفى السنوات الأولى من القرن العاشر الهجرى
(16م)، كانت الدولة المملوكية قد نال منها الإعياء، وأوشكت أن تحتضر، وكانت
الإسكندرية كلها قد انحدرت إلى حال من السوء شديدة يصورها ابن إياس تصويراً واضحاً
وهو يصف زيارة السلطان الغورى لها، فيقول: "فلما شق (أى الغورى) المدينة زينت
له زينة فشروية، وكان ثغر الإسكندرية يومئذ فى غاية الترحل والخراب" ثم يقول:
"ولم يكن بثغر الإسكندرية يومئذ أحد من أعيان التجار – لا من المسلمين ولا من الفرنج-، وكانت
المدينة فى غاية الخراب بسبب ظلم النائب وجور القباض، فإنهم يأخذوا من التجار
العُشر عشرة أمثال، فامتنع تجار الفرنج والمغاربة من الدخول إلى الثغر، فتلاشى أمر
المدينة، وآل أمرها إلى الخراب، حتى قيل: طلب الخبز بها فلم يوجد، ولا الأكل، ووجد
بها بعض دكاكين مفتحة، والبقية خراب لم
تفتح، وكانت الإسكندرية من أجل مدائن الدنيا".
الإسكندرية فى العصر العثمانى
هذه الصورة الشوهاء
التى رسمها ابن إياس لمدينة الإسكندرية فى السنوات الأولى من القرن السادس عشر –
أى قبيل الفتح العثمانى لمصر مباشرة – تدل
على مبلغ ما وصلت إليه المدينة من
تأخر واضمحلال، فلما فقدت مصر استقلالها، وأصبحت ولاية تابعة للدولة العثمانية
أصاب الإسكندرية ما أصاب مصر جميعها من إهمال، فانكمشت عن ذى قبل، ونعق يوم الخراب
فى نواحيها، وأقفرت شوارعها، وخربت دورها، وأصبح العمران مقصوراً فيها على
هذه الرقبة الممتدة بين الشاطئ وجزيرة
فاروس والمطلة على المينائين، فقد كان رصيف الهيباستاديوم عندما تحطم فى العصر
العربى قد تراكمت عليه الرواسب شيئاً فشيئاً إلى أن اتسعت رقعته، فأقيمت عليه المبانى.
هذه الرقعة كانت
تعتبر حتى أواخر القرن الثامن الهجرى من أرباض المدينة، ولكنها فى العصر العثمانى
أصبحت من المدينة ذاتها، ولهذا تسميها الرسومات التى رسمت للمدينة فى القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر بالمدينة التركية، فى حين تسمى المدينة الأصلية المحاطة
بالأسوار المدينة العربية، وهذه المدينة الأصلية
أصبحت فى العصر العثمانى مهجورة ذات أطلال وخرائب، وتنتثر فى نواحيها بعض
الحقول والبساتين، أما الأسوار وأبراجها فقد نالت منها يد البلى، وأصبحت غير ذات
غناء.
وعملت عوامل أخرى على
تأخر المدينة واضمحلالها، فقد صحب الفتح
العثمانى كشف طريق رأس الرجاء الصالح وتحول التجارة العالمية إليه، ففقدت المدينة
بذلك أهميتها التجارية، وانقطعت الصلة بينها وبين أوروبا والعالم الخارجى، وخاصة بعد
أن اضمحل شأن معظم الدول التى كانت تتجر
مع مصر وأهمها جمهورية البندقية والجمهوريات الإيطالية الأخرى، وضعفت كذلك صلة الإسكندرية بموانى الشام والدولة العثمانية،
فقد حلت مكانها دمياط ورشيد لأنهما أقرب منها إلى هذه الموانئ.
من أعلام العصر
العربى الإسلامى
أبو الحسن الشاذلى:
هو
العارف بالله – تقى الدين أبو الحسن على بن عبد الجبار
الشريف الإدريسى صاحب الطريقة الصوفية الشاذلية المنتشرة فى شمال أفريقيا ونزيل
الإسكندرية وأستاذ أبى العباس المرسى.
ولد عام 693هـ (1197م) فى عمارة قرية بتونس
وبدأ فى تلقى العلوم على شيوخ بلده وحفظ القرآن وجوّده، وفى عام 1142م التقى به
الشيخ أبو العباس المرسى فى زاويته التى أنشأها عند جبل زغوان فصحبه منذ ذلك الحين
ولازمه بقية حياته.
وجاء أبو الحسن إلى الإسكندرية عام (1244م)
ونزل عند عمود السوارى بظاهر المدينة عند الغروب، وكان على مصر فى تلك الفترة
الملك الصالح أيوب (من سلاطين الدولة الأيوبية) وبدأ أبو الحسن يلقى الدروس
والتفسير ويعظ الناس ويعقد حلقات الذكر فى مسجد العطارين "الجيوشى"
بالإسكندرية – فأقبل عليه الشيوخ والطلبة والمريدون ولقى
أبو الحسن وصحبه من أهل الثغر كل ترحيب وتكريم.
ولم يزل بالإسكندرية إلى الساعة عدد كبير من
اتباع أبو الحسن الشاذلى ومن المتصوفة يتوارثون طريقته ويحفظون تعاليمه ووصاياه.
أبو العباس المرسى (1219-1287):
هو
الشيخ العارف بالله شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن على الخزرجى الأنصارى
المرسى – ولد عام 616هـ (1219م) بمدينة مرسية من بلاد
الأندلس فى أسبانيا – فلقب بالمرسى.
ونشأ أبو العباس فى بيئة صالحة أعدته للتصوف
وفى صباه لقنه فوديه القرآن الكريم وعلمه
القراءة والكتابة والخط والحساب.
وفى عام 1248 اختار أبو الحسن الشاذلى وأبو
العباس المرسى وصحبتهما مسجد الجيوشى العطارين بالإسكندرية - لإلقاء الدروس وعقد
حلقات الوعظ والإرشاد والذكر وكان يحضرها الناس على مختلف طبقاتهم وفى مسجد
العطارين أعلن أبو الحسن أنه أقام أبا العباس خليفة له فى طريقته الصوفية وتوفى
أبو العباس المرسى يوم 25 من ذى القعدة سنة 685هـ (1287م).. ودفن برباط سوار خارج
باب البحر بالإسكندرية وكان قبره وما زال يزار للتبرك ويقام له فى كل سنة مولد
لمدة ثمانية أيام بعد مولد النبى عليه الصلاة والسلام وليلة فى نصف رمضان يحييها
مشاهير القراء بعد صلاة العشاء وإلى منتصف الليل.
وفى عام 1927 قامت وزارة الأوقاف بإنشاء المسجد
الحالى الجديد المشرف اليوم بمآذنه السامقة على الميناء
الشرقى بالأنفوشى على
الطراز العربى الأندلسى وبه الأعمدة الرخامية والنحاسية وأعمدة مثمنة الشكل وأهم
ما يميز المسجد الزخرفة ذات الطراز العربى والأندلسى وتعلو القبة الغربية ضريح أبى
العباس وولديه.
سيدى بشر:
هو بشر بن الحسين بن محمد بن عبيد الله بن
الحسين بن بشر الجوهرى. وهو من سلالة آل بشر الذين وفدوا إلى الإسكندرية فى أواخر
القرن الخامس أو أوائل القرن السادس الهجرى (الثالث عشر الميلادى) مع م جاء من
علماء المغرب والأندلس فى تلك الفترة التى ظهرت فيها بالإسكندرية المدرستان الإسلاميتان اللتان اجتذبتا إليهما
طلاب العلوم الفقهية وهما المدرسة الصوفية والمدرسة السلفية.
وكان سيدى بشر
الجوهرى متصوفاً زاهداً – اعتزل العالم وأوى إلى تلك المنطقة النائية
فى ناحية سيدى بشر بالرمل. ولما توفى عام 528هـ
أقيم له هناك ضريح حتى امتد العمران هناك فأقيم له فى أواخر القرن التاسع
عشر مسجد جديد ثم جدد المسجد فى عهد الخديوى عباس الثانى ومد إلى منطقته خط حديدى
ليصلى فى المسجد صلاة الجمعة حين يصطاف "الخديوى" بالإسكندرية. ثم جدد
مرة أخرى عام 1945م... وأضيف إليه ما جعل مساحته أربعة أمثال ما كانت عليه.
وفى عام 1947 أنشئ
أمام المسجد ميدان فسيح وحديقة تجاور شاطئ البحر وأصبح مسجده اليوم والحى المنسوب
إليه من معالم الإسكندرية المشهورة وأحيائها العامرة.
سيدى
جابر:
هو جابر بن إسحق بن إبراهيم الأنصارى.. وقد
ولد ونشأ بالأندلس فى أوائل القرن الثالث عشر الميلادى وانتقل سيدى جابر إلى
الإسكندرية وأقام بها وبنى له زاوية بالناحية المعروفة اليوم بسيدى جابر فى الرمل
وكانت يومذاك أرض خلاء وظل هناك يعلم ويكثر أتباعه حتى توفى بالإسكندرية (1298)
وعاصر حكم المماليك البحرية بمصر وشهد عهد السلطان قلاوون.
وكان سيدى جابر شيخاً ورعاً وكان إلى جانب
اهتمامه بشئون الدين وسلك طريق المتصوفة ورعايته لأتباعه، مهتماً باللغة والنحو
والصرف.
وفى عام 1958 أقيم المسجد الفخم الحالى الذى افتتح فى شهر رمضان فى حى سيدى
جابر الشيخ برمل الإسكندرية حيث تقام الصلوات كل يوم والموالد كل عام.
أبو القاسم القبارى:
هو
الشيخ الزاهد أبو القاسم محمد بن منصور بن يحيى المالكى السكندرى المعروف
بالقبارى والمولود سنة 587هـ (1191م) والمعاصر لدولتين الأيوبية والتركية.
وقد ترك له أبوه بعد وفاته بستاناً فى الحى
المسمى اليوم بالقبارى وذلك لاعتكافه هذا – بأن النفس لا تصلح إلا بالعزلة، والعزلة لا
تصلح إلا بقطع الطمع وقيل لقب بالقبارى من
ثمرة القبار التى كان يزرعها فى بستانه ويبيعها
للتجار على سبيل المقايضة.
وقضى القبارى بعض حياته فى بستانه غربى الإسكندرية يفلحه ويزرعه ويرى العمل فريضة
ولا يلجأ إلى السؤال ولا يتظاهر بالفقر ولا يلبس الخرق والمرقعات ولا يلتزم حياة
الكسل وعرف الناس صلاحه فكانوا يأتون غليه
فى أرضه للتبرك وطلب النصيحة حتى توفى بها فى 6 شعبان عام 662هـ (1264م) عن خمسة
وسبعين عاماً ودفن فى بستانه فى الجهة الغربية وأقيم على ضريحه مسجد صغير قام
بتوسيعه محمد على باشا فى القرن التاسع عشر ثم أقبل أهل المدينة على مر السنين على
السكن فى منطقة ذلك المسجد، فكبر الحى وأصبح اليوم من أكبر أحياء المدينة ويعرف
بحى القبارى.
أبو عبد الله الشاطبى:
هو
الشيخ أبو عبد الله محمد بن سليمان العامرى الشاطبى – ولد سنة 585 ثم جاء إلى الإسكندرية وأقام من
رباط سوار خارج البحر وكان أحد الأبنية التى شملتها الإسكندرية فى العصر المملوكى
واتسم بالطابع الدينى.
واشتهر الشيخ الشاطبى بالتدين والورع، وكان
السلطان الظاهر بيبرس (1260-1277) يذهب خلال إقامته بالإسكندرية لزيارته والاستماع
إليه.
ولم تزل الإسكندرية – بحى الشاطبى المعروف برمل الإسكندرية على
مقربة من شاطئ البحر زاوية فى إحدى عمارات الأوقاف تسمى زاوية الشاطبى يزورها
الكثيرون إلى اليوم للتبرك وينسب إليه بعض المؤلفات فى القراءات والتفسير.
الشاعر
الصوفى شرف الدين البوصيرى:
هو الشاعر الأديب والإمام الصوفى شرف الدين
أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن محسن – الملقب بالبوصيرى – نسبة إلى مدينة "بوصير" بصعيد
مصر.. وينتمى أسلافه إلى فرع من قبيلة منهاجة ببلاد المغرب نزح بعضهم إلى مصر.
وقد ولد فى أوائل
شوال سنة 608هـ (1213م) وجاء إلى الإسكندرية وتعرف على أبى العباس المرسى ولازمه
وأقبل على طريقته الصوفية.. ثم أخذ ينظم الشعر فى مدح النبى عليه الصلاة والسلام،
وعد من خيرة شعراء المدائح النبوية وقد بنى مدحه على فكرة صوفية هى المعروفة بالحقيقة المحمدية أو النور
المحمدى الذى انتقل عبر الأجيال منذ بدء الخليقة إلى عهدها بمحمد عليه الصلاة
والسلام.
وللبوصيرى ديوان من
الشعر المنظوم المختلفة الأغراض وبه الكثير من المدائح وأشهرها قصيدتا المحبة أو
البردة ولهذه القصيدة شروح كثيرة بالعربية والفارسية والتركية والبربرية.
ويرى
اليوم مسجد الإمام البوصيرى بمدينة الإسكندرية فى مواجهة جامع أبى العباس المرسى
وكان فى الأصل زاوية صغيرة تجددت مراراً حتى شيد المسجد الحالى عام 1274هـ (1858م)
ويتكون من مربعين منفصلين الأول يشمل صحن المسجد وتتوسطه نافورة وتحيط به الأروقة
من جميع الجهات والمربع الثانى به إيوان القبلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق