الأحد، 2 سبتمبر 2018


الإسكندرية قبل الإسكندر
والإسكندرية قبل قدومه للإسكندرية

الزمان : ما قبل عام 332 ق.م.
المكان : مقدونيا.
الإنسان         : - فيليب المقدونى والد الإسكندر.
          - أرسطوطاليس معلم الإسكندر.
          -  الإسكندر الأكبر قبل حضوره للإسكندرية.
الإسكندرية مدينتا ومعشوقتنا ولدت على يد ابن شهير لأب عظيم فقد سمع كل إنسان باسم الإسكندر الأكبر الحاكم المقدونى الذى غزا إمبراطورية واسعة الأرجاء فيما بين عام 336، 323 قبل الميلاد، وتوفى عندما كان يتخطى فقط السنة الثانية والثلاثين من عمره. وهو يتنهد حسرة على عوالم أخرى كان يصبو إلى فتحها ولكن ما كان للإسكندر حتى أن يبدأ فتوحاته لو لم يكن قد أحيط بالرعاية والإعداد اللذان أحاطه بهما أبوه فيليب فى دأب وصبر. ولقد كان فيليب ملكاً مقدونياً دبلوماسياً لامعاً واستراتيجياً مرموقاً، وهو الذى وسع ونمى نطاق تكوين عسكرى جديد وضخم لخوض المعارك، وهو المعروف بالفيلق المقدونى، فقد أنشأ فى مدة تربو على العشرين سنة القوة الحربية لمقدونيا التى امتازت بحيلها ودهائها وهزمت المدن فى اليونان وأرغمت حكوماتها على أن تتحالف معه ضد الفرس تحت قيادته.


وفيليب وإن يكن غير مشهور بقدر شهرة ابنه فقد كان أحد كبار الحكام فى العصور القديمة. ولما كان ابنه الإسكندر قائداً شهيراً فى حداثة سنه، فالمرجح أنه ورث هذه الميزة عن والده فيليب الذى بدأ حياته العامة وهو لا يزال فقط فى الرابعة عشرة من عمره وصب ملكاً على مقدونيا وهو فى الثانية والعشرين من عمره، ومضى يدير شئون الدولة ويضع لها نظماً فى سرعة وكفاية مما يكسبه فخراً كسياسى ذى خبرة، وقام بتوحيد مقدونيا فضم تحت لوائه وقيادته مقاطعاتها التى كانت شبه مستقلة وكان فيليب يبنى الجيش المقدونى قى صورة قوات مقاتلة ضخمة، وكانت هى العدة التى أمكن عن طريقها تحقيق الانتصارات العظيمة التى أحرزها الإسكندر فيما بعد. ففى سنة 340 ق.م. كان فيليب فى حرب مع أثينا وانتصر عليها فى سنة 338 ق.م. ودعا فى مؤتمر عقده لجميع اليونانيين إلى قيام اتحاد فيدرالى وشن هجوماً على الفرس ولكنه اغتيل فى سنة 336 ق.م. قبل أن يخرج هذا التدبير إلى حيز الوجود.
وهكذا نرى أن الإسكندر قد ورث عن أبيه نزعته العسكرية والحربية، وكذلك توليه أمور الحكم فى سن صغيرة وساعده فى ذلك خلفيته العلمية فقد كان تلميذاً لأرسطو وهو فى سن الثالثة عشر.
أما أرسطوطاليس فقد كان أبوه طبيباً فى القصر الملكى لمقدونيا ولما بلغ السابعة عشر من عمره ذهب إلى أثينا فى أكاديمية أفلاطون وسرعان ما ميزه ذكاؤه المتقد الأمر الذى جعل أفلاطون يخصه ببعض من وقته بعد الانتهاء من إلقاء درسه ليتحدث مع هذا التلميذ غير العادى وظل أرسطو يطلب العلم زهاء عشرين عاماً ولما توفى أفلاطون ترك أرسطو أثينا وعاد إلى مقدونيا وفى عام 342 ق.م. عينه فيليب ملك مقدونيا معلماً خاصاً لابنه الإسكندر.
وإن كان البعض يشكك فى أن يكون الإسكندر قد استفاد كثيراً من تعاليم أستاذه أرسطو فهذا الأخير كان يبحث فى علم الحيوان، ولكن أرسطو لم يترك مجالاً من مجالات المعرفة البشرية إلا وكتب فيه، وترك مؤلفات فى مجال الإلهايات والطبيعيات والميتافيزيقا والأخلاق والسياسة والشعر والأدب، وحقائق الواقع تقول أن  أرسطو كتب فى الأدب والفن أخلد  أعماله خاصة لاسيما فن المسرح الذى اختلفت فيه آراؤه تماماً عن أستاذه أفلاطون ولذلك يعتبره العالم المعلم الأول.
أما الإسكندر الأكبر فهو الذى أرسى أساس مدينة الإسكندرية فى 25 طوبة عام 331 ق.م. وترجع علاقة مصر ببلاد الإغريق مجئ الإسكندر بعدة قرون فقد تمكن تجار اليونان الوسطاء من تأسيس محلة لهم فى دلتا النيل هى قرية كوم جعيف بمحافظة البحيرة وتوطدت علاقة المصريين بالإغريق طوال فترة الاستعمار الفارسى لوادى النيل.


فلما استطاعت مقدونيا أن توحد الإغريق وتخلق منهم قوة متماسكة، عزم فيليب على القيام بغزو الإمبراطورية الفارسية ولم تمهله الأقدار، فقد مات قبل تنفيذ مشروعه تاركاً لابنه وخليفته الإسكندر الكبر هذه المهمة. وبدأ الإسكندر حملته وانتصر على القوات الفارسية فى آسيا. وآثر أن يسيطر على البحر وشواطئه الشرقية من بعد ذلك اتجه فاحتل كل موانى ومدن الساحل الشرقى للبحر المتوسط ووصل بعد ذلك إلى الإسكندرية فى خريف عام 332 ق.م. فسلم له الوالى الفارسى دون مقاومة، وتقدم الإسكندر بعد ذلك إلى منف بين مظاهر الترحيب الشديد من أبناء مصر الفرحين بخلاصهم من الحكم الفارسى البغيض، وقد نظروا إلى الإسكندر على أنه صديق وحليف يحترم عقائدهم، وتوج  نفسه  على نهج الفراعنة، وحمل لقب ابن آمون، وكان أعظم عمل قام به الإسكندر هو تأسيس المدينة التى حملت اسمه فخلدته.
قرية راقودة جزيرة فاروس
والسؤال الذى يتبادر إلى الأذهان. هل كانت الإسكندرية قبل مجىء الإسكندر الأكبر مجرد قرية صغيرة وهى راقودة أو راكوتيس، والتى استرعت نظر الإسكندر الأكبر لأهمية موقعها وهو فى طريقه لزيارة معبد آمون بواحة سيوة فعهد بتخطيط المدينة للمهندس دينوكراتيس لتكون نواة لإنشاء العاصمة الجديدة.
كانت قرية راقودة هى تلك القرية التى تقع بين موقعى قلعة قايتباى الحالية وقصر رأس التين. وقد قام المهندس دينوكراتيس بتخطيط وتنفيذ بناء المدينة عام 332 ق.م. وقد خطط دينوكراتيس المدينة على غرار المدن اليونانية ذات الشوارع المتعامدة التى تتميز بشارعين رئيسيين أحدهما طولى والآخر عرضى مع تقسيم المدينة إلى خمسة أحياء اتخذت أسماءها من الحروف الأبجدية الأولى من اللغة اليونانية القديمة.
وهكذا ولدت الإسكندرية لتكون أعظم مدينة فى العالم القديم بأسره.
وتعتبر الإسكندرية من المدن التى تم تخطيطها قبل بنائها على عكس المدن الأخرى التى تبنى أجزاء منها وعندما يتم إعمارها أو زيادة عدد سكانها وكثرة بيوتها وشوارعها يبدأون فى إعادة تخطيطها وتجميلها.
وتخطئ الظنون التى ترى أن مدينة الإسكندرية التى خططها دينوكراتيس هى راقودة.
إذاً مازال السؤال قائماً هل كانت هناك حضارة قبل الإسكندرية وفى نفس الموقع الذى أنشئت فيه أم أنها كانت مجرد قرية يعيش فيها الصيادون وذات موقع متميز فاختارها الإسكندر لتكون عاصمة لملكه الجديد.
يقول سليم حسن فى موسوعة مصر القديمة الجزء الرابع عشر "من المدهش أن الإسكندر
عندما وصل إلى مصر لم يجد أبوابها مفتوحة له وحسب بل رأى حشوداً من المصريين تجمعوا ليرحبوا
بمقدمه وشعر بدفء اللقاء
وقد أمضى الإسكندر بعد ذلك بعض الوقت فى منف حيث توّج ملكاً على مصر فى احتفال عظيم... وبعد الاحتفال بتتويجه انحدر الإسكندر من منف إلى أقصى فروع النيل وهو الفرع الكانوبى حتى مصبه، ومن هناك أقلع فى اتجاه غربى على الشاطئ ليشاهد كلاً من جزيرة فاروس وكذلك


قرية راقودة (راكوتيس) الصغيرة المشهورة وقتئذ بصيد الأسماك وكانت راقودة هذه أكبر القرى الصغيرة التى حولها وعددها ستة عشر قرية.
وكانت قرية راكوتيس أو راقودة تشغل الشريط الساحلى أمام جزيرة فاروس التى تشغل المساحة الحالية من رأس التين غرباً وقلعة قايتباى شرقاً.
وأوصل دينوكراتيس مهندس الإسكندر الجزيرة بالشاطئ بواسطة طريق ومن المرجح أن ذلك الشريط الساحلى الذى يفصل بحيرة مريوط عن البحر الذى بنيت عليه مدينة الإسكندرية لم يكن أبداً شريطاً منفصلاً من الأرض الصلبة بل كان مكوناً من عدد من الجزر الصغيرة التى تعلو سطح البحر وباستمرار ارتفاع سطح التربة وتراكم الرمال والطمى اتحدت هذه الجزر معاً وكونت شريطاً ساحلياً متصلاً يفصل البحر عن الخليج الذى تحول إلى بحيرة داخلية والذى نمت عليه القرية القديمة راقودة ومن بعدها الإسكندرية.
ومما يؤكد قدم المكان وأهميته أنه فى عام 1910م بينما كان جاستون جونديه كبير مهندسى مصلحة الموانى والمنائر يقوم بدراسات لتوسيع الميناء الغربى وتحسينه، اكتشف أرصفة ميناء كامل شمال غرب رأس التين وهى مغمورة تماماً بمياه البحر عللى أعماق قليلة لا تزيد أكثرها عن ثمانية أمتار ونصف.
وقد أثار هذا الاكتشاف ضجة كبيرة فى العالم فى هذا الوقت، نظراً للضخامة التى تميزت بها المنشآت المغمورة، كما أن هذا الكشف يعد من أوائل الكشوف الأثرية تحت البحر استمر جونديه فى أبحاثه من 1910 حتى عام 1915، واتخذ من اكتشافه شاهداً على وجود ميناء قديم أقدم من الإسكندرية التى بناها الإسكندر إلى الشرق من هذا المكان، دليلاً على هبوط القشرة الأرضية، وضياع الميناء تحت البحر.
هكذا وجد جونديه أن ميناء فاروس القديم قد تكون بوصل الطرف الغربى لجزيرة فاروس، أى من طرف رأس التين بصخرة تسمى صخرة بكار التى تقع غربها بسلسلة من حواجز الأمواج التى تسير من الشرق إلى الغرب موازية للساحل. وقد أمكن اكتشاف حاجزين للأمواج أحدهما خارجى والثانى داخلى. وجاء فى وصف جونديه أن كلاً من حاجزى الأمواج يبلغ حوالى 2500 متر فى الطول، و60 متر فى الاتساع، و10 أمتار فى الارتفاع، وأن المسافة بينهما تبلغ 200 متر. وبنى كل من حاجزى الأمواج من جدارين خارجيين يبلغ سمك كل منهما 12 متراً ويحصران بينهما فراغاً يملأ بكتل ضخمة من الصخور. تبلغ المساحة الكلية لهذا الميناء أكثر من 300 هكتار، أما الحوض الداخلى الذى سماه جونديه بالميناء الغربى فيبلغ 650 هكتاراً، ويضم ميناءاً صغيراً سمى بالميناء الخاص أو الميناء الحربى. كما يوجد ميناء آخر هو الميناء التجارى بين الميناء الغربى وخليج الأنفوشى، ويظهر على خريطة جونديه موقع الميناء الغربى إلى الجنوب، وهو بهذا يكون بعيداً عن أثر الرياح الشمالية الغربية التى تهب على الإسكندرية وتؤثر على الملاحة فى الميناء. واختيار المدخل بهذا الشكل يسهل دخول السفن وخروجها، ويدل على فهم عميق للظروف الطبيعية المحيطة بالميناء.
ولقد بنيت حواجز الأمواج من كتل ضخمة من الحجر الجيرى الذى يبلغ وزن الواحدة منها 6 أطنان والتى نقلت من محاجر المكس المجاورة. وتظهر الكتل السفلى من الحواجز منتظمة الشكل بينما تعرضت


العليا لعوامل التعرية بفعل مياه البحر والتيارات السطحية والأمواج والرياح فأصبحت ذات سطح أملس. ولا يزال بعض هذه الأرصفة فى حالة جيدة، بينما تراكمت الرمال والأعشاب البحرية على بعضها الآخر كما فى خليج الأنفوشى، ولم يستعمل أى نوع من المونة فى بناء حواجز الأمواج، بل وضعت الكتل إلى جوار بعضها البعض وملئت الفراغات بينها بالرمال والحجارة الصغيرة. وتعتمد متانة البناء فى هذه الحواجز على ضخامة الكتل الحجرية وثقلها، كما أن الكتل العليا كانت أكثر ضخامة بحيث تعطى شكلاً منتظماً للرصيف.
ويتدرج قاع البحر فى هذه المنطقة فى الانخفاض حتى يصل إلى عمق عشرة أمتار عند حاجز الأمواج الخارجى الذى يوجد الآن مغموراً تحت سطح البحر بارزاً فوق القاع حتى أعماق تتراوح بين ستة أمتار ونصف وثمانية أمتار ونصف تحت سطح البحر.
وفى البحثين اللذين نشرهما جونديه عام 1912، 1916 كثير من التفاصيل عن هذا الميناء العظيم وأرصفته وآثاره، ولا يملك القارئ سوى أن يعجب مع جونديه عندما يقول: "إن هذا الميناء كان نتاج عبقرية علمية فذة".
وليس فى الكتابات القديمة ما يشير إلى وجود هذه المنشآت الغارقة التى اكتشفها جونديه. وكان الرأى السائد قبل هذا الكشف، أن الإسكندر الأكبر هو أول من أسس ميناء على هذا الموقع من ساحل مصر. فجاء هذا الكشف الأثرى ليحدث انقلاباً فى الأفكار السائدة، وليثير كثيراً من المناقشات والآراء حول أصول هذه المنشآت وتاريخ بنائها. فهناك رأى يقول أن هذه الأرصفة ما هى إلا حواجز للأمواج أقيمت فى العصر اليونانى أو الرومانى أثناء ازدهار الإسكندرية لحماية جزيرة فاروس التى أصبحت جزءاً من المدينة. أما الرأى الآخر فهو رأى جونديه مكتشف هذه الآثار والذى يلقى تأييداً من جمهرة العلماء، إذ يعتقد جونديه أن هذه الآثار تدل على وجود ميناء كامل أقدم عهداً من الإسكندرية، ولكنه اختفى بالتدريج تحت سطح البحر نظراً لما أصاب القشرة الأرضية من انخفاض وعندما حضر الإسكندر إلى مصر كان هذا الميناء قد اختفى تماماً تحت سطح البحر. وجاء اختيار الإسكندر لموقع الإسكندرية غير بعيد عن  الميناء القديم عند جزيرة فاروس وإلى الشرق منه.
والذين يتفقون مع جونديه على أن هذه الأرصفة المغمورة تمثل ميناء أقدم من الإسكندرية يقوم بينهم جدل كبير حول تحديد العصر الذى بنى فيه الميناء، فيربط بعضهم بين هذا الميناء وما جاء فى الأوديسا ملحمة الشاعر اليونانى هوميروس من "أن هناك جزيرة فى البحر الخضم تسمى فاروس قريبة من مصر ولها ميناء صالح لإيواء السفن ومنها تقلع السفن إلى البحر بعد أن تتزود بالماء".


ويؤيد هذا أن الإلياذة والأوديسا ملحمتى هوميروس كانتا الحافز على اكتشاف آثار طروادة على الساحل الغربى لآسيا الصغرى. ويرى هؤلاء أن هذا النص بالإضافة إلى أنه دليل قاطع على وجود ميناء فاروس قبل أن يشرع الإسكندر فى بناء مدينته بزمن كبير، إلا أنه يبين العلاقة بين حضارة بحر إيجه قبل العصر اليونانى والحضارة المصرية القديمة. ثم هم يرون أيضاً أن المصريين لم يعرفوا سوى الموانى التى تقوم على مصبات النيل مثل الميناء القديم هلى مصب الفرع الكانوبى، بينما عرف أهل كريت أصحاب الحضارة المينوية الموانى التى تقوم على البحر مباشرة. ولما كانت هذه الحضارة ذات طابع بحرى، وكان ثراء كريت معتمداً على التجارة السلعية مع مصر، فإن بعض العلماء يرون أن أهل كريت اشتركوا مع الفراعنة فى بناء فاروس، أو أن الفراعنة منحوا بعض اللاجئين من كريت حق الإقامة فى جزيرة فاروس فبنوا هذا الميناء ويرى هؤلاء أنه لاغناء فى كلتا الحالتين عن التعاون الكامل مع المصريين وفرعونهم الذى يحتمل أن يكون سنوسرت (حوالى عام 2000 قبل الميلاد).
وعلى العكس من ذلك، يرى الكثير من المؤرخين أن المصريين كانت لهم قوة بحرية ذات بال، وأنهم عرفوا الموانى غير النهرية التى تواجه البحر مباشرة على شواطئ البحر الأحمر، كما عرفوا الموانى النهرية عند مصبات النيل. ولذا يرجح هؤلاء ومنهم جونديه أن ميناء فاروس القديم ميناء فرعونى أصيل، وقد قارن جونديه عمارة هذا الميناء بمعابد الدولة الحديثة فى الكرنك وطية من حيث الضخامة وثقل الأحجار المستعملة التى تزيد الواحدة منها أحياناً على 6 أطنان للكتلة الواحدة، وانتهى إلى القول بأن رمسيس الثانى أو الثالث هو الذى بنى هذا الميناء لحراسة الساحل وحمايته من هجمات سكان شمال البحر الأبيض وليبيا. وذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الميناء أقدم عهداً من الرعامسة بل يرجع إلى عصر الدولة القديمة.
وأياً ما كان الرأى فى العصر الذى بنى فيه ميناء فاروس، ومن الذى بناه فسوف تظل هذه الأرصفة المغمورة تحت مياه الإسكندرية شاهداً على أنه من أقدم الموانى التى شيدها الإنسان فى العالم وقد أنشئ على ساحل مصر المطل على البحر الأبيض المتوسط. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن هذا الموقع من شاطئ مصر احتله ميناء آخر أقدم عهداً من ميناء فاروس، هو ميناء A-Ur أو الباب الكبير أى الميناء، وكان يقع على مصب الفرع الكانوبى للنيل، وكان مرفأ لأسطول سنفرو أحد ملوك الأسرة الرابعة (حوالى 2750 قبل الميلاد).
ويحدثنا حجر بالرمو أن سنفرو  بنى ستين سفينة ضخمة لإحضار الأخشاب من سوريا. وفى حوالى عام 2000 قبل الميلاد كان هذا الميناء قد اندثر لينشأ على مقربة منه إلى الغرب ميناء فاروس القديم.
ويحدثنا فؤاد فرج فى كتابه (الإسكندرية) الجزء الأول تاريخ المدينة القديمة ودليل المدينة الحديثة، فيقول: واستناداً إلى كل المراجع والأبحاث التى عملت عن مدينة الإسكندرية من يوم أن عهد حضرة صاحب السمو الخديوى إسماعيل باشا إلى محمود الفلكى باشا بها أن اسم المنشية يدل على أن هذا الحى أنشأ فى البحر بواسطة الأحجار المنقولة والرواسب البحرية، وأنه كانت توجد فى هذه المنطقة أيضاً تجاه فاروس قرية مصرية صغيرة اسمها راكوتيس كان يسكنها بعض البحارة وصيادى السمك وكان موقعها فوق المرتفعات الحالية القائمة عليها الآن عامود السوارى ويرجع تاريخ إنشائها   إلى عام 1300 قبل الميلاد.


أما حلمى توفيق أمين فى كتابه (تاريخ منارة الإسكندرية القديم) الذى أهداه من باريس عام 1977 إلى مكتبة بلدية الإسكندرية فقد جاء فى مقدمته أنه حين آلت مصر إلى الإسكندر المقدونى بعد انتصاره على دارا الثالث ملك فارس فى معارك حاسمة وجد الفرصة سانحة أمامه لتحقيق مشروعاته الجديدة التى ترمى إلى تكوين إمبراطورية عالمية تضم أجزاء من الشرق والغرب يتآخى السكان فيها دون النظر إلى اختلاف عناصرهم ولغاتهم وتدين له بالولاء والطاعة باعتباره إمبراطور ينحدر من صلب الآلهة، وذلك تطبيقاً للفكرة التى أخذها من أستاذه الفيلسوف أرسطوطاليس، وكان على الإسكندر أن يختار له عاصمة جديدة ومرفأ جديداً يتسع لسفن التجارة العديدة يكون خليقاً بمملكته العالمية.
وفى طريقه إلى سيوة لزيارة معبد آمون وعلى شاطئ البحر بعيداً عن المنطقة الطميية منطقة الترسيب، وعند قرية صغيرة قديمة لا تتعدى أن تكون شريطاً ساحلياً يقع بين البحر شمالاً وبحيرة مريوط جنوباً وقع اختيار الإسكندر على هذا المكان لوضع أساس مدينة الإسكندرية لما لها من صلات وثيقة بالعالم الإغريقى فقد كانت المنفذ الرئيسى بين مصر ومسالك البحر الأبيض المتوسط، كما كانت مركزاً تجارياً هاماً مع بلاد الإغريق فى عصر الأسرات 26، 29، 30 ويفوق الفرما فى أهميته فى هذا المضمار، ذلك لأن قرب الفرما من فلسطين وسوريا جعلها عرضة للخطر الفارسى وهذا ما دعى المؤرخين إلى القول بأن الإسكندرية كانت بلدة قديمة عامرة أعيد تأسيسها وبناؤها وتوسيعها على نطاق واسع شأنها فى ذلك شأن كثير من المدن الهيلينية والمؤسسات العمرانية التى تلتها فتغيرت جميع معالمها القديمة.
وقد أراد الإسكندر من اختياره لهذا المكان أن يجعل مدينته الجديدة تنافس صور فى أهميتها التجارية وشجعه على تخطيط مشروعاته فى هذا السبيل وجود جزيرة فاروس على مقربة من الساحل الشمالى الغربى لمصر، فتأسست مدينة الإسكندرية على نمط المدن الإغريقية وكان ميناؤها البحرى يفوق سائر موانى البحر الأبيض المتوسط ولكن وفاة الإسكندر فى بلاد ما بين النهرين عام 323 ق.م. حالت دون إتمامه لمشروعاته فى عهده تاركاً إياها لمن خلفه على حكم مصر من البطالمة، وكانت الإسكندرية لا تزال مقدراً لها أن تخلف صور فى التفوق التجارى فى شرق البحر الأبيض المتوسط وقد اهتم البطالمة بالإسكندرية اهتماماً كبيراً من الناحية العمرانية فاتسعت مرافقها وعمت عمائرها وكذا دور النهضة والإشعاع لنشر الثقافة والحضارة فى الشرق، وقد كان يحد الإسكندرية من الشمال جزيرة ويبلغ طولها حوالى ثلاثة أميال وتقع على بعد نحو ميل شمالاً، وتقوم بمثابة حاجز لحماية الميناء من طغيان البحر وأنوائه ويقال أن الجزيرة والشعب المجاورة لها أصلها من الساحل وانفصلت منه بحادثة فى الأزمان العتيقة.
وقد اشتهرت هذه الجزيرة بمنارتها التى يقال أنها أعطتها اسمها فعرفت بالفاروس، والمعتقد أنه كان بالجزيرة منارة لإرشاد السفن فى الفترة السابقة لعصر الإسكندر فمن الثابت أن راقودة القرية المصرية القديمة كانت ميناءاً بحرياً هاماً ومنفذاً بين مصر وممالك البحر الأبيض المتوسط. وقد ذكر هوميروس أنها كانت مطروقة قبل قدوم الإسكندر إلى مصر كما كشف أخيراً على بقايا أرصفة هذا الميناء بالقرب من جزيرة


فاروس وأمكن الاستدلال على أن الجزيرة كانت تستخدم منذ عهد رمسيس الثانى كميناء وكمعقل لحماية مصر من طغيان سكان البحر. هذا علاوة على أن جزيرة فاروس كانت معروفة قبل بناء الإسكندرية بست قرون كما أن راقودة كانت منذ عهد الفراعنة مدينة تجارية وحوصرت مراراً بسكان سواحل البحر، وكان بها منذ زمن بعيد الصوريون والكنعانيون وكثير من سكان جزائر البحر، ولذا فلابد أنه كان فى الميناء منارة لهداية السفن المترددة عليها وحيث أن الفاروس تعنى بالرومية محل النور فهذا يؤكد أن الجزيرة كانت الموضع الذى أقيمت فيه المنارة السابقة لمنارة الإسكندرية.
ومن المرجح أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن المنارة بنيت قبل عصر الإسكندر فلعلهم كانوا يقصدون بذلك منارة راقودة وكذا المنارات السابقة لها أو بالأحرى الوسائل التى كانت تستخدم فى إرشاد السفن منذ عهد الفراعنة فقد ذكر بعض المؤرخين أن المنارة من بناء الفراعنة أو أنها من بناء العاشر من فراعنة مصر وذكر عبد الحكم أنها من بناء دلوكة بنت ذبا قبل الإسكندر، وذكر ابن حوقل أن قوماً زعموا أن بانيها وبانى الهرمين ملك واحد وذكر ابن وصيف شاه وصفاً لمنارة راقودة عند ذكر أخبار مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام إذ يقول "بنوا على قبة على أساطين من نحاس مذهبة ونصبوا فوقها منارة عليها مرآة تتخذ لإحراق سفن العدو وكان ارتفاع القبة مائة ذراع "وذكر البغدادى أن المرآة قلدت فى مدينة الإسكندرية فأقيم فوق رأس المنارة ولكنها كانت تستخدم فى رؤية العدو عن بعد.


أما منارة الإسكندرية فقد ذكر الأسيوطى أن النصف الأول منها من عمل ذى القرنين. وذكر المسعودى أنها من بناء بعض ملوك اليونانيين ويقال أنه الإسكندر لما كان بينه وبين الروم من حروب فجعلوا هذه المنارة مرقباً لاستطلاع تحركات مراكب الأعداء فى البحر.
وذكر ابن وصيف شاه أنها من بناء الإسكندر بن قلتش الرومى وكان رأسه بقدر القبة العظيمة وطول أنفه ثلاثة أذرع فلما بنى المنارة انعكس هذا الأثر على شكلها.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن المنارة بنيت بأمر الملكة راقود ويقال أنها من بناء كليوباترا، وقيل أن الذى بنى رومية (روما) بنى المنارة ثم نسبت إلى الإسكندر لشهرته باستيلائه على أكثر الممالك فى العالم فشهرت به وذكروا فى ذلك أخباراً يستدلون بها على ما قالوا.
وذكر ابن الفقيه أنها من بناء ذى القرنين المعمر صاحب سد يأجوج ومأجوج الذى ليس هو الإسكندر بل شابهه الإسكندر فى طى الأقاليم.
وذكر ابن خلدون أنها من بناء حوريا ابنة ماليا بن حربيا، وعهدت بأمرها إلى اليفيه ابنة عمها ولكن من الثابت فعلاً أن المنارة الشهيرة من بناء البطالمة وليس سواهم.
ولعل هؤلاء المؤرخين يقصدون شيئاً غير المنارة خاصة وأنه كلن يطلق على العامود لفظ منارة، وعلى المسلة لفظ منارة، وعلى طابق البناء لفظ منارة، ولكن المرجح أن منارة راقودة كانت مصدر وحى للإسكندر لبناء منارة الإسكندرية على جزيرة فاروس لتكون كفيلة بإرشاد السفن المترددة على الميناء الجديد ولحراسة المدينة العريضة.
وهكذا سميت المنارة بالفاروس نسبة إلى الجزيرة التى بنيت عليها ثم حرف الاسم فيما بعد إلى فار وفنار، وليس كما قال البعض على العكس من ذلك ولكن بناء المنارة لم يتم فى عهد الإسكندر وإنما شرع فى بنائها فى عهد بطليموس الأول (سوتر) وتمت فى عهد خلفه بطليموس الثانى (وسيأتى الحديث تفصيلاً على ذلك فى موضع آخر).
ويقول الدكتور سليم أنطون مرقس فى كتابه (حضارات غارقة) قصة الكشوف الأثرية تحت البحر.
إن قصة الكشوف الأثرية تحت البحر مع الإسكندرية تبدأ عام 1910 عندما اكتشف جاستون جونديه كبير مهندسى مصلحة الموانى فى ذلك الوقت أرصفة ضخمة لميناء كامل مغمور تحت سطح البحر خارج الميناء الغربى بين رأس التين وصخرة بكار إلى الغرب.
وأثار هذا الاكتشاف حينئذ ضجة كبيرة فى الأوساط العلمية فهذه أول مرة يكتشف فيها ميناء قديم لا يوجد أى سجل له وتتضارب الآراء بشأن تاريخ بنائه وكيفية اختفائه تحت سطح البحر.
وفى بحث تحت عنوان "الإسكندرية أقدم كثيراً من الإسكندر" للأستاذ الدكتور لطفى عبد الوهاب أستاذ التاريخ اليونانى الرومانى عن الدور الذى قام به موقع الإسكندرية قبل تأسيس المدينة يقول سيادته:


فى 331 ق.م. وضع دينوكراتيس، مهندس الإسكندر، التخطيط الهندسى لمدينة الإسكندرية ووافق الإسكندر على هذا التخطيط. ثم غادر مصر بعد ذلك دون أن يرى تنفيذ هذا التخطيط على أرض الواقع ولم يقدر له فى الواقع أن يرى المدينة التى وافق على خطتها إطلاقاً، فقد مات فى بابل فى وادى الرافدين (العراق حديثاً) دون أن يعود إلى مصر مرة أخرى.
فماذا عن موقع الإسكندرية قبل تأسيس الإسكندر لها. هل كان هذا الموقع مجرد قرية بسيطة للصيادين، يقيم بعضهم على جزيرة فاروس (التى كانت تمتد بين الأنفوشى ورأس التين حالياً) ويقيم البعض الآخر فى قرية راقودة الموازية لهذه الجزيرة على امتداد الشاطئ؟
إن سترابون (وهو مؤرخ وجغرافى يونانى قديم)، يذكر لنا هذا الكلام. وليس هناك فى الواقع سبب لتكذيبه فهو كاتب يتحرى الصدق بقدر المستطاع، ومن المرجح فعلاً أن موقع الإسكندرية (قبل تخطيطها) كان مجرد جزيرة وقرية يسكنها الصيادون. ولكن السؤال الهام هو: هل كان موقع الإسكندرية دائماً كذلك، طيلة العصر الفرعونى بأكمله؟ والإجابة على هذا التساؤل بالنفى، بمعنى أن هذا الموقع، حقيقة كان قرية بسيطة للصيادين عندما جاء الإسكندر إلى مصر فى 332 ق.م.، ولكنه لم يكن كذلك فى كل الفترات السابقة طوال التاريخ المصرى القديم. وتفصيل ذلك على النحو التالى:
إن الموقع تدهور تدهوراً كبيراً على مدى القرن والنصف السابق لفتح الإسكندر لمصر، وهى الفترة التى شهدت الحكم الفارسى لمصر. وقد كانت هذه الفترة فترة تراجع على كل المحاور الحضارية المصرية. فالفرس لم يكن لهم هم إلا جمع الضرائب وإرسالها إلى عاصمة إمبراطوريتهم فى إيران دون أن يهتموا أى اهتمام بأى شئ فى مصر. بل وصل الأمر إلى أنهم لم يهتموا حتى بوسائل الدفاع عن مصر، فحين جاء الإسكندر استسلم له الحاكم الفارسى فى منف دون قتال. أما الفترة السابقة للحكم الفارسى فكان الأمر فيها غير ذلك، استناداً إلى الحقائق التالية:
(أ) من الناحية الاقتصادية كان موقع الإسكندرية موقعاً تجارياً هاماً فيما يخص التجارة الخارجية، ولدينا على ذلك عدة شواهد واضحة:
1- نص فى ملحمة الأوديسة للشاعر اليونانى هوميروس، يتحدث فيه على لسان أوديسيوس أحد الملوك اليونانيين الذين اشتركوا فى حرب طروادة الذى ذكر أنه عند عودته من هذه الحرب مر بجزيرة فاروس، التى تمثل أول أراضى الفرعون من ناحية البحر، ثم يصف هذه الجزيرة فيقول: لقد كان فيها خليج كبير تبحر منه السفن الكبيرة بعد أن تكون قد تزودت بالماء. وواضح أن الحديث ليس عن سفن صغيرة للنزهة. وإنما عن سفن "كبيرة" تقلع بعد أن تكون قد "تزودت بالماء" فى بداية رحلة طويلة ومن هنا لابد وأنها كانت سفناً فى طريقها إلى عرض البحر حاملة على متنها سلعاً للمقايضة مع الشواطئ الأخرى للبحر المتوسط. ومثل هذه السفن التجارية لن تحمل سلعاً من الشاطئ المصرى ثم تعود فارغة، وإنما لابد أنها كانت تعود بسلع أخرى من الشواطئ الأخرى.



2- ولدينا فى الواقع شاهد جاء فى كتابات هيرودوت، المؤرخ اليونانى الذى كتب فى أواسط القرن الخامس ق.م. يتحدث عن تاجر يونانى وقبطان فى الوقت نفسه، كان فى طريقه من جزيرة ساموس (إحدى الجزر اليونانية فى بحر إيجه شرقى بلاد اليونان). ويذكر هيرودوت فى هذا المجال أن الرياح المعاكسة انحرفت بخط سير الرحلة إلى الشاطئ المصرى فكان ذلك سبباً فى تأخير الرحلة. ومعنى هذا أنه كان هناك مسار معروف للرحلات التجارية بين مصر وبلاد اليونان. وهذه الرحلة التى يتحدث عنها هيرودوت ترجع إلى القرن الثامن ق.م. أى قبل مجىء الإسكندر إلى مصر بأربعة قرون كاملة.
3- أما عن تحديد هذا الموقع التجارى المصرى على شاطئ المتوسط، وأنه هو جزيرة فاروس (أحد قسمى الموقع القديم الإسكندرية قبل تأسيسها)، فيؤكد ذلك وجود ميناء كامل بأرصفته ومخازنه، لا يزال قائماً حتى هذه اللحظة غربى قصر رأس التين فى الميناء الغربى. وقد اكتشفه المهندس جاستون جونديه Gaston Jondet مدير مصلحة الموانى والمنائر المصرية عام 1914م. وهو ميناء فرعونى تدل على ذلك الحجارة الكبيرة جداً التى استخدمت فى بنائه والتى اشتهر بالبناء بها المصريون وحدهم فى العصر القديم.
4- ويدل على النشاط التجارى الذى قام فى العصر الفرعونى بين الإسكندرية والشواطئ اليونانية للبحر المتوسط بعض اللقى الأثرية التى تمثل قطعاً فنية جاءت من جزيرة كريت وجزيرة ساموس، وهى موجودة الآن فى المتحف اليونانى الرومانى، كما يدل على ذلك أيضاً اكتشاف قطع فنية فى جزيرة كريت متأثرة بالفن المصرى (قطع على شكل زهرة اللوتس مثلاً) وهى قطع تشير إلى العلاقات الفنية، التى جاءت فى أعقاب العلاقات التجارية بين البلدين.
5- هذا النشاط التجارى الواسع كان يستلزم بالضرورة قيام صناعة فى فاروس وفى القرية الساحلية الموازية وهى راقودة: مثل صناعة السفن بطبيعة الحال (لاحظ استمرار هذه الصناعة حتى الآن على الشاطئ بالإسكندرية عند الأنفوشى)، وصناعة السلع للمقايضة التجارية مع الشواطئ الأخرى، وورش الصناعات اليدوية، وأسواق ومقار للتجار وهكذا، مما يجعلنا نؤكد أن راقودة لم تكن قرية صيادين وإنما كانت مدينة صناعية نابضة فى العصر الرومانى، ثم تدهورت تحت الحكم الفارسى لتتحول إلى قرية فقيرة ليس أمام سكانها، هى وفاروس، إلا حرفة الصيد.
(ب) من الناحية العسكرية:
كانت راقودة موقعاً عسكرياً أساسياً على الشواطئ المصرية، لحمايتها من هجمات من عرفوا باسم "شعوب البحر فى العصور القديمة" ولدينا لإثبات ذلك عدة شواهد:
1- منظر على أحد جدران معبد رمسيس الثالث فى مدينة هابو (غرب الأقصر) يصف بالصور والنقوش معركة شعوب البحر من جهة والمصريين من جهة أخرى على شاطئ البحر. وهو يصورها على أنها



معركة كبيرة شرسة انتصر فيها المصريون ويصف مكانها على أنه يتحكم فى مصب النيل ومن سياق الوصف نعرف أنه مطابق للفرع الكانوبى للنيل (غرب رشيد وقد اختفى الآن) وكان هذا الفرع يصب فى خليج أأبوقير وهو تحديد ينطبق على راقودة.
3- نص فى كتاب الكاتب اليونانى سترابون يتحدث فيه عن معركة بين المقاتلين المصريين وشعوب البحر وهو يحدد راقودة  بالتحديد كموقع لهذه المعركة.
4- ومما يؤكد أيضاً أن الإسكندرية كانت تعتبر موقعاً عسكرياً هاماً أن بها منطقة مرتفعة تصلح كنقطة مراقبة عسكرية ونقطة هجوم عسكرى وهى منطقة كوم الشقافة الحالية. وقد عثر فيها من عصر الفراعنة، على تمثالين صغيرين أحدهما لرمسيس الثانى، والثانى لرمسيس العاشر.
5- سمى الكهنة المصريون قرية راقودة (التى أصبحت تسمى حى راقودة، بعد تأسيس الإسكندرية على يد الإسكندر) قلعة الإسكندر، إشارة إلى هذه الصفة العسكرية التى كانت تتمتع بها.
وأخيراً فإن راقودة هى: النطق اليونانى لتسمية "رع قدت" المصرية ومعناها: الإله رع يشيد. وواضح من التسمية المصرية أن هذه البلدة لا يمكن أن تكون قرية. إذ كان بناؤها ينتسب إلى أله من أكبر الآلهة المصرية.
وفى بحث للأستاذ أحمد عبد الفتاح مدير عام المتحف اليونانى الرومانى منشور باللغة الإنجليزية فى المؤتمر الثامن للجمعية الدولية لعلماء الآثار فى 28/3/2000م عن الجدل المثار حول وجود آثار فرعونية بمدينة الإسكندرية وضواحيها وعن الإسكندرية قبل عصر الإسكندر يقول أن الغرض من تقديم هذا البحث هو إيقاظ الحماس تجاه البحث العلمى فيما يخص موضوع وجود آثار فرعونية بالإسكندرية يرجع إلى التعليل الذى ساد لعدة عقود حول سبب وجود آثار مصرية قديمة بالمدينة والقول بأن هذه الآثار جئ بها من المدن الفرعونية القديمة مثل هليوبوليس وممفيس وطيبة بغرض التجميل والمساهمة فى بناء المدينة.
وبالرغم من النظرية الفرنسية التى ظلت لأكثر من قرنين من الزمان كحقيقة إلا أن هذه النظرية أو وجهة النظر يحوطها العديد من نقاط الضعف مما يدعو إلى مراجعتها بسبب عدة عوامل، أولها يخص العلماء الفرنسيين أنفسهم. وثانيها يتعلق بعدم القدرة على فهم الكتابة المصرية القديمة. وثالث هذه العوامل هو الحالة المتدنية للمدينة فى ذلك الوقت.
أما عن العامل الأول فيجب الأخذ فى الاعتبار أنه بالرغم من مهارة العلماء الفرنسيين الملحقين بالحملة الفرنسية إلا أن هؤلاء لم يكن مجال تخصصهم هو الحفريات. وعن العامل الثانى فالمعروف أن أسرار الكتابة المصرية القديمة لم يكن قد تم فك رموزها فى ذلك الوقت بالرغم من اكتشاف حجر رشيد. وأخيراً بالنسبة للعامل الثالث فإن أحسن ما يوصف به حالة الحفريات فى المدينة هو ما جاء فى كتاب وصف مصر جزء 2.
"حالة مستمرة من الدمار تبدو وكأنها تلاحقك وتبعث على تعب العين وسأم الروح، كما أن بقايا الأبنية والردم قد غطى سطح الأرض.


ومن خلال الوصف السابق إضافة إلى أن معظم المدينة كانت مغطاة بالآثار الفعلية الموجودة مثل عامود السوارى والمسلتين الخاصتين بمعبد السيزاريوم أو ما يطلق عليه برج الرومان وعدد من الآثار الصغيرة الموجودة فى كل مكان فى المدينة ومن أهمها تابوت نكتاتيو الثانى (359-341 ق.م.).
والذى من الضرورى ملاحظته هو أن التماثيل والآثار من عهد الإسكندر الأكبر والبطالسة التى عثر عليها فى الإسكندرية وضواحيها كانت قليلة مقارنة بتماثيل الملوك والآثار الفرعونية.
وكانت راكوتيس توصف فى اللغة الهيروغليفية بأنها مدينة بينما وصفها استرابون بأنها قرية، وكان ذلك بعد ثلاثة قرون.
مما سبق عرضه هو وضع الإسكندرية قبل وصول الإسكندر إليها وإنشائها فى 331 ق.م.
ولكن ما هو الموقف بعد وفاة الإسكندر؟
كانت وفاة الإسكندر فى بابل فى عام 323 ق.م. مفاجأة للجميع ونشأ عن وفاته موقف معقد، فقد كانت الإمبراطورية لا تزال فى دور التكوين الإدارى بمعنى أنها لم تعرف نظاماً محدداً تسير عليه لأن الإسكندر كان دائماً مشغولاً بحملاته العسكرية، لذا لم يتح له الوقت لاستنباط نظام دائم تسير عليه إمبراطوريته وبالتالى كانت كل تنظيماته الإدارية وقتية تتسم بطابع ظروف الحرب، وبالإضافة إلى هذا فلم ينظم الإسكندر طريقة وراثة العرش من بعده خاصة أنه مات ولم يترك وريثاً شرعياً له من صلبه.
وهكذا  فمن الممكن القول أن السلطة الشرعية فى الإمبراطورية قد انتقلت بطريقة عملية إلى كبار قواد الإسكندر وكان أهمهم وأرفعهم منزلة "برديكاس" وعقب وفاة الإسكندر دعا كبار القادة إلى اجتماع للاتفاق على تقرير مصير الإمبراطورية، وفى هذا الاجتماع بدأت تتكون تكتلات حسب أهواء القواد وانحصرت المسألة أول الأمر فى هذا السؤال، هل يمكن الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية؟ ومن الذى يتولى السلطة العليا فيها؟؟ ثم تطورت فيما بعد عندما قضى على فكرة الوحدة إلى صراع بين حلفاء الإسكندر للظفر بالسيطرة السياسية والاقتصادية وعرف هذا الصراع باسم حروب الخلفاء وبدأت 321 ق.م. واستمرت أربعون عاماً، وبالطبع عين برديكاس وصياً على العرش، وإلى جانب الوصاية على العرش بقى منصبه السابق وهو القائد الأول لجيوش الإمبراطورية، وهكذا أصبح برديكاس فى واقع الأمر هو الممثل الأول للسلطة  المركزية.
أما سائر القواد فقد منح كل منهم إقليماً من أقاليم الإمبراطورية ولقب "ساتراب" أى والى وسميت هذه الأقاليم ساترابيه" أى ولايات، ونتج عن ذلك قيام ثلاث دول جديدة ففى أوروبا قامت مقدونيا تحت سيطرة أتيجوتوس. وفى آسيا قامت الدولة السليوقية بزعامة سليوقوس. وفى أفريقيا قامت الدولة البطلمية بزعامة بطليموس.
ومنذ اللحظة الأولى لتولى بطليموس بن لاجوس حكم مصر والذى عرف بعد ذلك باسم بطليموس الأول أخذ يعمل بصفة مستقلة منفصلة كمؤسس لدولة جديدة مستقلة منفصلة عن سائر الإمبراطورية وقدر لهذه الدولة أن تبقى نحو ثلاثة قرون وهى من أطول الدول التى تخلقت عن إمبراطورية الإسكندر بقاءاً.



لمحات عن الإسكندر الأكبر
كان الإسكندر يؤمن بقيام الوحدة بين جميع البشر.
لم يكن الإسكندر مجرد زعيم سياسى أو قائد عسكرى ماهر بل كان مفكراً استراتيجياً من الطراز الأول نتيجة لتلمذته على يدى أرسطو.
وكان صاحب نظرة شاملة ورؤية ثاقبة.
تعلم الشعر والأخلاق والتاريخ والجغرافيا.
اضطر فى سن السادسة عشر أن يحكم مقدونيا نيابة عن أبيه المتغيب وفى سن الثامنة عشر قاد الجناح الأيسر من جيش أبيه فى موقعة خيرونيا.
فى 336 ق.م. عندما بلغ العشرين من عمره ارتقى عرش مقدونيا بعد اغتيال أبيه فيليب الثانى فبزغت عبقريته السياسية والحربية وكان عليه أن يخمد الثورات التى نشبت فى أنحاء متفرقة من بلاد اليونان بعد مقتل أبيه؟
وجد فى الحسم بالقسوة والإرهاب خير وسيلة لردع الذين تسول لهم نفوسهم إثارة القلاقل والاضطرابات.
أقام الصلوات فى معبد أثينا فبعث من جديد ذكريات أبطال الإغريق الأسطوريين الذين قدمهم هوميروس فى ملحمته الشهيرة "الإلياذة"
قدم الولاء والخشوع لآلهة المصريين الذين رحبوا به ملكاً على مصر بعد صراع دينى ودنيوى مرير مع الفرس.
أقام المباريات الرياضية والحفلات المسرحية والموسيقية التى اشترك فيها بعض الفنانين البارزين فى بلاد اليونان.
سجل التاريخ أن كاهن آمون حياه بصفته ابن الإله وطبقاً للعقيدة المصرية فإن هذه التحية لا توجه إلا إلى ملك مصر.
عرف عن الإسكندر حبه العميق للتدين وسعة الخيال ويقينه بأن شخصه يحظى بشىء من العناية السماوية الخاصة.
بعد اغتيال دارا بيد أحد رجاله عامل الإسكندر عائلته معاملة طيبة وتزوج ابنة دارا (روكسانا).
عقد زواج ثمانون من المقدونيين البارزين على زوجات فارسيات وكان ذلك تجسيداً لفكرة الإسكندر وإيمانه العميق بوحدة الجنس البشرى. وفى مقالة لـ و. تارن تحت عنوان "الإسكندر الأكبر ووحدة البشر"، وفى كتاب "حياة الإسكندر" للمؤرخ بلوتارك: أنه (أى الإسكندر) قال أن الله هو الأب المشترك لجميع الناس وأنه يصطفى خيار الناس بصفة خاصة ليعدهم من أنصاره.


قضى نحبه فى الثالث عشر من شهر يونيو عام 323 ق.م. فى بابل وهو فى الثالثة والثلاثين من عمره.
وهذه الأفكار الخاصة بوحدة الجنس البشرى ترجع إلى إيمان الإسكندر بالمذهب الرواقى الذى ابتدعه زينون الأيلى والذى يدور حول تساوى البشر جميعاً وأن التفاضل بين البشر لا يكون إلا بالعقل والأخلاق.

دينوقراطيس
المهندس مخطط الإسكندرية عام 331 ق.م.
ارتبط اسم المهندس المعمارى دينوقراطيس (دينوقراط) بتاريخ الإسكندرية منذ أن وضع التخطيط الأول لهذه المدينة عام 331 ق.م.، وقسّم أرضها الفضاء إلى طرق  وميادين وأحياء فكان لعبقريته الهندسية الفضل فى نشوء هذه المدينة بتلك الروعة والجمال، وقابليتها للتطور والازدهار.
وكان دينوقراطيس إغريقياً من جزيرة رودس فى البحر المتوسط، واشتهر بتجديده معبد "أرتيميس" بمدينة أفسس اليونانية.. وصحب الإسكندر إلى الإقليم المصرى فى زمرة مستشاريه المقربين. كما رافقه فى جولته الكشفية التى بدأها من مدينة كانوب "أأبوقير" مرتاداً الشاطئ المصرى الشمالى غرباً حتى المنطقة القريبة من قرية راقودة (راكوتيس) وجزيرة فاروس المواجهة لها بحثاً عن مكان ملائم يشّيد فيه مدينة الإسكندرية.
وكان الإسكندر يهدف من إنشاء هذه المدينة الجديدة إلى إيجاد ميناء بحرى قريب من بلاد اليونان ومقدونيا وثغور البحر المتوسط، ليصبح واسطة السيطرة على شرقى البحر المتوسط، ومركزاً لنشر الحضارة الإغريقية فى الأقطار التى يفتتحها، ورغبة فى تخليد الذكر (فلقد أنشأ أثناء فتوحاته الممتدة من البحر المتوسط إلى الهند نحو سبعة عشر مدينة جديدة تحمل اسمه).
وفى ذلك المكان المختار عند خط عرض 31º شمالاً وخط عرض 47º شرقاً على رقعة الأرض الرملية الممتدة بين شاطئ البحر شمالاً وبحيرة مريوط جنوباً فى شكل مستطيل طوله من الشرق إلى الغرب نحو أربعة أميال، وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو ميل، ومحيطه كما ذكر "بلينى" خمسة عشر ميلاً، شرع دينوقراطيس فى تخطيط الإسكندرية وأرساها يوم 25 طوبه عام 331 ق.م. (30 يناير 331 ق.م.) وأخذ فى شق شوارعها وأنشأ مبانيها.
وتابع تنفيذ خطة دينوقراطيس بعده، مهندس آخر كان المراقب المالى الذى وكّل إليه الإسكندر عند رحيله من مصر أمر تلك الرقابة وهو "كليومينيس" من نقراطيس (نسبة إلى مدينة نقراطيس).
ولما جاء بطليموس الأول "سوتير" عقب وفاة الإسكندر، وبدأ حكمه عام 323 ق.م.،واصل إنشاء المبانى



والقصور والمعاهد والمعابد، واتخذ الإسكندرية العاصمة الرسمية للدولة المصرية المستقلة.. وتلاه ابنه بطليموس الثانى "فيلادلفوس" فزاد فى عمرانها ورونقها.. وكذلك فعل بقية البطالمة بعدهما بحيث أصبحت الإسكندرية فى مقدمة المراكز التجارية والثقافية فى العالم وعاصمة عقلية للعالم أجمع.
وزحف العمران وامتدت الطرق، فربطت بين الإسكندرية وبين جارتيها كانوب ومينوتيس (أأبوقير الحالية) فأمست هاتان البلدتان من ضواحى الإسكندرية، العامرة بالأسواق والملاهى.
وأنشأ دينوقراطيس طريقاً من الأرض يصل بين جزيرة فاروس وبين شاطئ الإسكندرية طوله نحو 1200 متراً، وسمى "ابتاستاديوم" أى السبعة ستاد (والأستاد حوالى 186 متراً) وكان الغرض من إنشائه توسيع رقعة المدينة قرب البحر، والحد من التيارات البحرية، وتكوين مرفأين بحريين على جانبيه هما الميناء الشرقى، والميناء الغربى للإسكندرية الباقيان إلى اليوم.
وكان الميناء الشرقى أو الميناء الكبير ذا مدخل صخرى ضيق، يغلق بسلاسل ضخمة، وفى طرفه الشرقى رأس "لوقياس"، وفى غربه جزيرة فاروس. وشيدت حوله القصور والمعاهد العلمية كما أقام فيلادلف على صخرة شرقى جزيرة فاروس منارة الإسكندرية الشهيرة.. وكان يربط الجزيرة بصخرة المنارة جسر مائل يرتفع تدريجياً، طوله 68 متراً تقريباً، وشيد سور ضخم حول هذه المنارة لحمايتها من طغيان البحر..
وفى الميناء الغربى أو "ميناء العود السعيد"، كانت تصب ترعة الإسكندرية حاملة الماء العذب إلى المدينة من فرع النيل الكانوبى على مسافة 27 كيلومتراً  من المدينة وكانت تتفرع إلى فرعين: فرع يتجه إلى مدينة كانوب محاذياً ساحل البحر، وماراً بناحية "تابوزيريس" (المنتزه الآن)، وينتهى مجراه عند رأس "زفيريوم" (فى طرف أأبوقير).. وفرع يسير إلى الإسكندرية ويصب فى الميناء الغربى (ومكانها ترعة "شديا" أو المحمودية الآن).. وتخزن مياهها العذبة للشرب فى مئات الصهاريج تحت أرض الإسكندرية.
ودبّ النشاط التجارى فى بحيرة مريوط، واتصلت بها الترع من النيل تجتازها المراكب المحملة بالسلع.
وحصّنت الإسكندرية فى خارجها بالأسوار الحجرية ذات الأبراج. وكان طول تلك الأسوار يتراوح بين عشرة وخمسة عشر كيلو متراً. وبها أربعة "بوابات": - الباب الشمالى أو "باب القمر" ويؤدى إلى الميناء، والباب الجنوبى "باب الشمس" ويصلها ببحيرة مريوط، والباب الشرقى "الكانوبى" ويبدأ عنده شارع كانوب، ثم الباب الغربى ويصل المدينة بحى المقابر "نكروبوليس" جنوب غربى المدينة.
ورسم دينوقراطيس شوارع الإسكندرية فى خطوط مستقيمة رأسية وأفقية متوازية تمتد من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وتتقاطع فى زوايا قائمة. وكانت تتسع جميعاً لسير العربات والمشاة وكان أهمها شارعين رئيسيين متقاطعين، يشطران المدينة، ويمتدان فى خطين مستقيمين نحو بواباتها الأربع السالفة الذكر، وكل منهما فى عرض مائتى قدم، أولهما: الشارع الأفقى المسمى: "شارع كانوب" وطوله أربعون "ستاداً" ويمتد من الباب الكانوبى فى الشمال الشرقى إلى باب نكروبوليس فى الجنوب الشرقى، (ومكانة اليوم طريق الحرية أو شارع أبوقير سابقاً). وكانت تزينه الأقبية والأعمدة المرمرية والمصابيح. كما أقيم على جانبه معبد صغير بديع لسيرابيس خلال حركة العمران فى عهدى بطليموس الأول والثانى.


وامتد الشارع الكبير الثانى أو "شارع سوما" -  (الجثمان) من "باب الشمس" عند بحيرة مريوط فى الجنوب الشرقى، إلى "باب القمر" قرب بداية الجسر الموصل بين شاطئ البحر وجزيرة فاروس (ومكانه اليوم شارع النبى دانيال) وقد سمى بشارع سوما أى الجثمان إشارة إلى ضريح الإسكندر الذى شيد تبعاً لرواية بعض المؤرخين فى الميدان الفسيح عند تقاطع هذين الشارعين، ثم اقيمت حوله أضرحة البطالمة وخططت شبكة من الطرق الموازية لهذين الشارعين، ورصفت بحجر البازلت الأسود، ورقمت بالحروف الأبجدية، ثم أطلق على بعضها أسماء من أسرة البطالمة مثل "اسينو" زوجة بطليموس الثانى وغيرها. وقسمت المدينة إلى مساحات بين الشوارع لإقامة المبانى والمنشآت.
وكانت الإسكندرية منذ أول العهد البطلمى كما ذكر فيلون مقسمة إلى عدة أحياء رئيسية أهمها: حى "الهيبدروم" فى نهاية الشارع الكانوبى (طريق الحرية حالياً) وبه ميدان الألعاب الرياضية وسباق الخيل.. وحى "ألفسيس" ويقع على القناة الكانوبية (ناحية حدائق النزهة الآن) ويرتاده السكندريون فى الأعياد والمواسم كما يفعلون اليوم فى عيد شم النسيم وغيره. (وكان يسكن هذا الحى شيخ شعراء الإسكندرية كاليماخوس فى عهد بطليموس الثانى).. وحى "البروكيوم" أفخم أحياء الإسكندرية وأكثرها حركة وسكاناً، وبه قصور البطالمة، ودار الحكمة "الموزيوم"، والمكتبة الكبيرة، "الجمنازيوم" الرياضى، والمحكمة، وحديقة الحيوان والنبات، وغيرها.. وعلى الميناء الشرقى فى هذا الحى شيّدت كليوباترا فيما بعد معبد "القيصرون" كما بنى (فى مكان السلسلة الحالى) عدد  من القصور الفخمة.
ويذكر بعض المؤرخين أن شارع سوما (الجثمان) وما حوله كان حياً قائماً بذاته، وأن شارع كانوب كان يفصل بين الحيين الأخيرين.
وكان الحى الوطنى "راقودة" يسكنه المصريون كما سكنوه قبل تأسيس الإسكندرية الجديدة. (ومكانه اليوم كوم الشقافة وجزء من الجمرك). وشيّد البطالمة فى هذا الحى معبد "السرابيوم" الكبير، وكان من أفخم المعابد (وقد خرب خلال المصادمات بين الوثنيين والمسيحيين فى العصر الرومانى).
كما كان هناك حى اليهود فى الجزء الشمالى الشرقى للمدينة وتسكنه منهم جالية تشتغل بالتجارة والمال.
أما حى المقابر "نكروبوليس" ففى الناحية الجنوبية من المدينة الغربية وتحيط به الحدائق الفسيحة والمزارات، وتمتد بين البحر وبحيرة مريوط.
وعندما احتل الإسكندرية القائد الرومانى اكتافيوس شيّد على شاطئ البحر الشمالى الشرقى حى "نيقوبوليس" أى مدينة النصر، ليقيم بها الرومان وحاميتهم، ويقول سترابون إنها ناحية آهلة بالسكان كأنها مدينة قائمة بذاتها.
وهكذا كانت تتسع مدينة الإسكندرية منذ أن خططها دينوقراطيس، وتزداد عمراناً وسكاناً ونش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق